امرأة عربية عاشقة جداً، وتحزن كأفقر الأشجار العربية، وتعيش التقشف العاطفي، لتحفظ ماء وجهها وخواتيم عمر النهار.. طلبت مني أن أكون وسيطاً بين قلبها وقلب حبيبها.. وبعد القراءة والاستفهام، أخبرتها: حبيبك لا يعنيه دعم أحزانك وتمويل قلبك بما يلزمه من العواطف الجيدة، التي لا تتأثر بأشعة الخديعة الحارقة وبرودة النكران والقطيعة.. ولهذا أعتذر من قلبك أيتها العربية المحبطة كجمهور موعود بالفرح فإذا به على مدخل عاصفة طربية هوجاء.. وغيرها النساء الأمهات والحبيبات والأخوات والخالات والعمات والجدات اللواتي لهن أحزان على مد البصيرة والبصر ورصيدهن الوحيد وجدان راشح بالمحبة كبيت نبع يسافر في حيطانه عشب الزمان..
العرب أمة مشمولة بالشقاء والأحزان الخائنة.. الحزن الدارج اليوم يخون نفسه، وحين يجوع يأكل حريته كالوثنيين الفقراء الذين أكلوا معبودهم المصنوع من التمر.. والمسؤول العربي يأكل أحلامه، منذ نعومة أظفاره، كي يبقى بلا أحلام، ويبقى صالحاً للتداول المهين والاستهلاك.. الذين يدعمون أحلامهم لا تدعمهم بورصة الهموم السياسية السامة.. العرب الفقراء أحلامهم معهم، لكنها بلا تمويل، وأحزانهم أكثر من أن يحملها قلب وأقوى من همة الحزينين أنفسهم، الملوك والأمراء والقادة والحكام، ومن خلفهم المسؤولون من الدرجات المختلفة هؤلاء لا يدعمون سيادة الحزن لأنه يفضح مالديهم من حضيض.. الحزن المدعوم، ولو قليلاً، يحمي من حرفة الحضيض.. لكن وا أسفاه أمست حرفة الحضيض سيدة الحرف وأعلى المواهب والمراتب كل ملك وحضيضه وكل أمير وحضيضه وكل سياسي وحضيضه وكل حزين وشقاؤه وتشرده.. والرعايا المشمولون باهتمام الحاجات وجنون اللذات الجانحة مثل سفينة على مدخل العواصف هؤلاء هوايات عرجاء..
العرب إما حزينون ومشردون ولاجئو عواطف، وإما ممولون للجهل وغباء اللذات والفرح اليابس مثل حنطة في حارة شمس أبدية.. والزمن العربي منفي ومعذب في صحراء التآمر والخيانات..
العربي المتنفذ والسارق المسيطر والمتآمر أكبر همه أن يعلن الحجز الاحتياطي على أي سعادة متوجهة إلى أحزان البشر الذين دون مستوى آفة الجهل وأعباء الغباء.. حتى المدعومون يبيعون كاليتامى وأبناء السبيل على قارعة المفارقات الموحشة لأنهم بلا جاهزية وجدانية وبلا أحلام.. ومهما يبدو عليهم الدعم والتنعم ليسوا على أهبة الحياة الكريمة والتأمل.. يعتاشون على منتجات الفوضى كحشرات المزروعات المرتبطة بالتلوث كارتباط محميات الذل بأسياد الذل الغربي وأموال النفط.. امرأة تهدي ولدها وقلبها لوطنها أشد دعماً وحسناً من جميع الرخاء (الملغّم) الذي يطل علينا به مال الإذلال العربي.. وقت وقف للتضحيات والأحزان الوطنية أو وقف للهاوية ودلال الانحدار..
الإنسان الراهن لا يشبه نفسه في قناعة أو حلم أو أمل أو أمنية.. قطيع ضخم يقضم فتات وبقايا رغباته.. وفي القحط الشديد يجتر ويردد أساه ومآسيه الصغيرة على مسمع حاله وباله، وصولاً إلى يأس مفرد أو مجموع.. وحينذاك يصاب العقل العربي بـ (الزهايمر العاطفي والحنين) ويغدو حارس خراب وناطور تفاهات وعلل.. وبدل أن يهتدي إلى تجديد مصيره وابتكار الوقت، يبتكر ضعته ووراء هالبشع ورجوعاً لا مثله بين الرجوع والردة والخضوع.. فرصة ذهبية للهاوية والصعود مع وقف الإعانة؟!
لا يهتدون إلى أحزانهم كالخراف المنساقة ببلاهة القضم ورغبة الوصول إلى العشب.. بلا أحزان أي أمة تموت بداء بؤسها.. والعرب المسيطرون والممولون يموتون بأبشع أنواع القحط الأخلاقي والحزني والحلمي.. يعلقون الحضيض على عتبات أقوالهم وأفعالهم ويبقون يتاجرون بموت الحياة العربية والأحلام العربية والأحزان اللائقة ببني البشر.. وسادة الخراب يرحبون بهؤلاء حتى ينتهي عملهم بالموت وقضم السعادة والرؤى والقناعات ألعن السيادات الخراب وألعن السادة المخربون.. لكن زمناً يحتاط بهذا القدر الكبير من الحضيض لا بد أن يتكئ الآن أو لاحقاً على عكاز آتيه، كعجوز جبلية ضاعت منها خطاها وشجاعة الدروب، فسارت إلى حافة يوم مشمس.. مهما تجاورت الخيانات مع الأحزان لابد أن ندعم ما عندنا من أحلام مشغولة بقليل من التأملات.. والتأمل لا يعني أننا فوق ظرف المآسي وتكرار الخيبة حواريات الظروف التي في طور الحياة العربية والأحزان المستجدة كطالبات السنوات الجامعية الأولى.
سيدات الحزن العربي اللاتي يتركن للوطن ميثاق قطف الأبناء لينتهز الآتي فرصة الزهور والظهور.. بسيادة حزنهن نقاوم سيادة الهاوية وأسياد الانهيار والعربيات يبالغن في احتضان شجاعة الدمع في وداع الأغصان الحاملة أعراس ضوع الثمار.. والسوريات لم يقفن على الحياد فيما يخص وقت العطاء فأعطين كامل قلوبهن وقلوعهن وكن سياج البكاء كيلا يتعب.. أمهات ابتكرن شرعية جديدة للحب الوطني ومجلساً عاماً لرعاية الأحزان الكبرى ودعمها، وعلى هذا الأساس نهضت عمارة وجد الأمهات، ومقابلهن سقط دلال ودلع البطر الكوني المدعوم بهيمنة التشويه والسلب والنهب.
وطن جديد للحزن العربي الجيد قدمته النساء المزدهرات كرامة للوطن السيد بشقاء أولاده وفرحهم المتبقي كـ (مونة) أخيرة في خزانة الآمال..
لغة التجديد في الأحزان العربية التي أبدعتها أمهات الراحلين الأبطال وأخوات الراحلين وزوجاتهم وحبيباتهم والجارات والقريبات لغة تنام وتصحو على مخدة زمن كان يفكر بالانتحاب أو الانتحار أمام زمن (الزهايمر العاطفي العربي)..
المرأة العربية العاشقة جداً التي طلبت وساطة سارية المفعول بين قلبها وقلب حبيبها الملخوع مثل تفاحة يائسة عادت اليوم لتتعلم فناً أرقى من حزنها هو فن توديع أقمار الأيام من أجل بقاء الأعوام والزمن الجديد.
اللغة هذه تؤلف زمناً عربياً ووطنياً وتؤلف جاهزية أحزان واثقة بسخاء أهلها وأسيادها البسطاء..
سيدات الحزن الجديد وسادته أناس بسطاء ونساء بسيطات.
لنقرأ الحزن العربي الجديد في كلام الأمهات الجديدات اللواتي خرجن إلى حداثة مآستهن من رحم وقتهن القديم، ليخترعن للبقاء بقاء وللأبناء بنوة راشدة واعية مثل شجرات الملتقيات والجبال والأودية والينابيع وآلاف السهول وعقول الحقول..