أبو فراس الحمداني أنشد:
«أراك عصي الدمع شيمتك الصبر»
صفعني أبي وأنا في العاشرة لأنني كنت أبكي وصاح بي : «ياولد.. إذا شفت بعد اليوم دمعة بعيونك سأزعل منك سنة كاملة» لكن الأم الحنون صاحت بزوجها: اترك هذا الصبي يعبر عن عواطفه. البكاء يا أبا ياسين يخفف عن الصدر ثقل الأيام القادمة.. لكنه أصر على ألا يراني باكياً مادام حياً.. وعندما أدخلوني إلى غرفته وهو مسجى ميتاً على سريره كنت شابا في العشرين قبلته مراراً من شاربيه وذقنه وأنا حابس دموعي أكاد أنفجر.. لكن عندما ماتت أمي تركت لدموعي التي حبستها كل سني عمري السابقة، أن تسيل دون توقف.. بكيت أمي ومازلت، كلما تذكرتها، أبكي فراقها، مثلما يبكي أي إنسان منا على فراق أمه.. فليس لأي إنسان، مهما كانت أخلاقه أغلى من الأم التي حضنتنا كل سني عمرها قبل أن تغمض عينيها إلى الأبد.
وحرصت في الأمور الأخرى التي تبكي الحجر أن يكون دمعي عصياً، مهما كانت الظروف صعبة وقاسية.
أذكر بالمناسبة أن شاعر لبنان الكبير أمين نخلة كان حساساً إلى حد لو رأى قطة دهستها سيارة يبكي عليها كالأطفال، وفي إحدى زياراته لدمشق عشق فتاة دمشقية بعمر ابنته مارسيل، ولم تتجاوب تلك الفتاة معه . أولاً لفارق العمر، هي في العشرين وهو في الستين وثانياً لأنها من عائلة تقليدية.. حاولت مسايرته لأنه الشاعر الكبير الذي اسمه على كل شفة ولسان ولأنه ضيف على الدولة ساعة يشاء، وعندما تنصرف تدمع عيناه فيداريها بإشعال سيجارة بافرا، ثم يدعي أن عينيه دمعتا من دخان السيجارة وليس من أي شيء آخر.. وكنا نفهم هذه اللعبة الذكية ونأسف لأن يأتي الحب أمين نخلة وهو في أرذل العمر.
في الحقيقة، إن الأمور انقلبت معي عاليها سافلها عندما أصبحت شيخاً منهكاً من صراع الحياة حتى تقاطعت علي السيوف من كل جانب كأن قدري كان الخيبة والفشل والاحباط من كل ما حولي.. خيانة الأصدقاء، قسوة الأهل وقرفهم من شيخوختي وهجر الحبيبة، أو ماكنت أتصور أنها الحبيبة، لتقلب لي ظهر المجن ذاهبة إلى شاب من عمرها .
أصبحت هشاً، وما تحايلت على دموعي بدخان سيجارة فأنا أصلاً لا أدخن.. بل تركت لدموعي حريتها تنفس عن الضغط الذي يكاد يخنقني فأبكي كالأطفال.. متذكراً الشعراء قديمهم وحديثهم في بكائهم الذي صوروه في أحلى قصائدهم، مثل قول المهلهل:
ونبكي، حين نذكركم عليكم
ونقتلكم كأنا لا نبالي
أو قول امرئ القيس :
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
بشق وتحتي شقها لم يحول
وأنشد مجنون ليلى:
وليس الذي يجري من العين ماؤها
ولكنها نفس تذوب وتقطر
ومن نصيب هذا البيت المعبر:
كذبتك الود، لم تقطر عليك دماً
عيني ولم يتصدع قلبي الحزن
وهذا البيت المذهل في معناه للوليد الانصاري:
أعشب خدي من البكاء وقد
أورق غصن الهوى على كبدي
وفي معنى مقارب للشاعر أبو حفص الشطرنجي:
وما مر يوم أرتجي فيه راحة
فأذكره، إلا بكيت على أمسٍ
ولأبي تمام أعظم شعراء العرب قوله:
وكأن عبرتها عشية ودعت
مهراقة من ماء وجهي أو دمي
أما ديك الجن الحمصي فهو القائل:
إن تكن الأيام قد أذنبت
فيك، فإن الدمع لا يذنب
وقال الشاعر ابن المعتز:
لو لم تعرها جفوني الدمع تسفحه
قد أثقلته حمولة من عنبر
أو قوله أيضاً:
وقفت بالروض أبكي فقد مشبهه
حتى بكت بدموعي أعين الزهر
أما الشاعر العظيم المتنبي فهو القائل:
تلج دموعي بالجفون كأنما
جفوني لعيني كل باكية خد
وقوله في بيتين آخرين :
لا تعذلي المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
إن القتيل، مضرجاً بدموعه.
مثل القتيل، مضرجاً بدمائه
وأبو فراس الحمداني في بيت آخر يقول:
لم أبح بالوداع جهراً ولكن
كان جفني فمي ودمعي كلامي
وقال كشاجم أبو الفتح محمود بن الحسين:
ذهب البكاء بعبرتي
حتى بكيت على البكاء
ولشعر مشابه لشعر سبق، قال الوأواء الدمشقي:
لو أعشب الخد من دموع
لكان في خدي الربيع
وقال القاشاني:
عيني، مذ شطت الديار بكم
تحكي سماء والدمع أنجمها
كأن في وجنتي أبالسة
تسترق الدمع وهي ترجمها
أما مهيار الديلمي فهو القائل:
إذا دنس الحزن السلو غسلته
فعاد جديداً بالدموع السواكب
وقول ابن الخياط:
إذا ما خانني دمع بليد
بكيت بأدمع الشعر الفصاح
وقال ابن خفاجة الاندلسي:
ولي، كل حين ، من هواك وأدمعي
بكل مكان، روضة وغدير
أو الأرجاني:
دمعة عيني عمياء كاهنة
يصدق عند الورى منبئها
وقال ابن منقذ:
بكيت فأضحكت الوشاة شماتة
كأني سحاب والوشاة بروق
والقاضي الفاضل يقول:
وإذا جرى فيه الحديث، جرى له
دمعي، فينقلب الحديث بكاء
وابن سناء الملك يقول:
من طول ما يرمى بصحبتها
يبكي البكاء ويسهر السهر
ولمحمود سامي البارودي:
ما للنسيم بليلة أذياله؟
أتراه مر على جداول أدمعي
وأختم بشاعر مجهول:
ويلاه من نار الهوى، إنها
لولا دموعي أحرقت أصابعي
وبكاء الشعراء كثير لا حدود له.. البكاء راحة وهدوء نفسٍ، فابكوا أيها السادة تصحّوا.