تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


صقر عليشي.. طريق مغاير في الشعر

ثقافة
السبت 26-11-2011
غادة اليوسف

كلّ حرف.. كلّ كلمة..كلّ جملة..كلّ مقطع..تأتي ريشته المبدعة خضرةً ذكيةً ذكاء روحٍ، تندغم في لوحة الكون..

مفرداته البسيطة، التي، لايشغلها كثيرا أن تكون من مفردات الشّعر، يغويها- صقر عليشي- بعشقه، وتوحّده، برهافةٍ عالية تزهو بتسيّدها على ما لا يُستغنى عنه لاكتمال الجمال، إذ أنّه اختطّ لنفسه طريقاً مغايراً من حيث المحتوى، ومن حيث الشكل، ولاسيما في تناوله موضوعة الطبيعة، ومفرداتها البكر، متناسجة مع موضوعة المرأة، حيث بدا واضحاً منذ البداية تأثّره ببيئته الريفية الجميلة، التي احتضنت طفولته، وكم يطيب له استرجاعها، ليعيد رسمها بشفافية ورهافة باذخة، محتفياً بكلّ ما يعتمل بوجدانه من فداحة الخسران، ومن الحنين إلى حياة حملتْ عذوبتها، ونأتْ، محاوراً مفرداتها المقيمة في حجرات الروح، مستلهماً منها تربيته الجمالية، متباهياً بانتمائه لبراءتها، مؤوّلاً آياتها بعرفانية ذائبة بعشق مُطلَقِها:‏‏

يأسفُ الشاعرُ‏‏

إذ يَرجِعُ أدراجَ الأناشيدِ‏‏

إلى ركْنٍ حزينْ‏‏

يأسفُ الشاعرُ....‏‏

هذا ماعز الذّكرى‏‏

مضى يرعى حشيش الرّوح‏‏

في سفح السّنين‏‏

يأسفُ الشاعرُ....‏‏

ماذا يفعلُ الشاعرُ في وقتٍ كهذا‏‏

غيرَ أن يسقطَ‏‏

مِنْ‏‏

أعلى‏‏

الحَنينْ ؟‏‏

الطبيعة عند صقر عليشي تتكلّم! ولمَ العجب؟ فكلّ الشعراء يستنطقون الطبيعة، ويُطربون لهديل الحمام، وشدو البلابل، وحفيف أوراق الشجر، وسقسقة الينابيع.‏‏

غير أنها عند صقر عليشي، تتجنّس بهويات مغايرةٍ، وتتبادلها طوراً مع البشر، وحيناً مع إخوتها من العناصر:‏‏

هل ألقتْ أشجارُ السرو عليكَ‏‏

تحيّتها الخضراءْ‏‏

أَسمعْتَ بُغام الصخرِ‏‏

يجوبُ السفحَ‏‏

تَفَطّرَ قلبُ الأسحارِ له‏‏

وارتعدَتْ رُكَبُ الأنحاءْ؟‏‏

أم قضمتْ تفاحةَ قلبكَ‏‏

أسنانُ الماءْ؟‏‏

تُخفي البساطةُُ في جملته الشعريّة أعماقاً بعيدة الغور في اللفظة، ومدلولاتها المُضمَرة، تلك البساطة، المُترفّعة عن المُباشرة والسذاجة، والتي يحلم ببلوغ مراقيها كبار الشعراء، ولا يُفلحون، إلاّ باستثناءات نادرة، ويحضرُ الآن -بزخم وجه الشاعر نزار قبّاني، وقد يعيينا البحث عن أمثلة ! فما نقرأه من شعرٍ حداثوي هذه الأيام يلقي بنا في غياهب الغموض والالتباس، لدرجة أنّنا بتنا نحِنّ إلى جملةٍ شعريّةٍ قادرة على أنْ تتغلغل في وجداننا، و تسمو بنا إلى عوالم الشعر، ورحاباته، دون رهقٍٍ أو عنَت!‏‏

يجمع الشاعر عليشي هذين المتناقضين: أقصد البساطة والعمق في جملته الشعرية، وهو الذي يؤمن أنّ القصيدة السهلة، التي تمنح ذاتها منذ القراءة الأولى، لا تحظى بالتقدير الذي يليق بالشعر، ويعلن عن ذلك في غير موضع، مُذرياً بالوضوح الذي لا يُطلق لذّة التحليق في أجنحة الخيال قائلاً في قصيدة له بعنوان (وضوح):‏‏

كتبتُ القصيدةَ...أنهيتُها...‏‏

وأثناء ترديدها بين نفسي وبيني‏‏

خفْتُ أفهمها،‏‏

ويضيعُ عليَّ التعبْ‏‏

خفتُ أفهمها...‏‏

وإذا ما فهمتَ القصيدةَ‏‏

معناهُ أنّك لمْ تنتظرْ نُضجَها...‏‏

ومعناهُ أنّكَ سُقْتَ بها مسرعاً‏‏

في طريقِ الأدبْ‏‏

العمقُ في البساطة سليقةٌ تعمّدتْ بأبلغ فنون البيان، وأبعدها دلالةًً، بفنّيّةٍ توهم الكثيرين بسهولة اجتراحها، إذنْ، فليُجَرّبوا، وحبذا لو استطاعوا، إذنْ، لكانت اغتنتْ مملكةُ الضوء ببزوغ شموسٍ جديدة:‏‏

وُلدتُ‏‏

وكانتْ روحي في طََبْعتها الأولى‏‏

في صورةٍ نادرةٍ للياسمين يقول:‏‏

أنت قيدي، كما الإخضرارُ البديعْ‏‏

هو قيدُ الشجرْ‏‏

أنتِ منْ سوف يأتي إلى مرحي‏‏

ويقاسمني بهجةَ السيرِ والابتلال‏‏

تحت المطرْ‏‏

أنتِ كنتِ كميناً من الياسمينْ‏‏

حينما صارت الروحْ‏‏

تحتَ مرمى شذاهُ‏‏

انفجرْ‏‏

في هذا المقطع من قصيدة(أحاول هذا الكلام الوثير)، يتمادى في تبسيط المستحيل، سادراً في شعريّته، فيحشد اللفظة والعبارة بممكنات البلوغ إلى أقصى، وأغرب، وأدهش مستوى:‏‏

الحنين إلى بياض الطفولة، لا ينفصل عنده عن الحنين إلى خضرة مرابعها، ما ينسفح بسخاء على بساتين قصائده، يحتفي بها احتفاء من شفّه الوجد لمن غاب بعيداً في الزمان ولن يعود، فيصوّرها كما يليق بالطفولة من دهشةٍ، وبراءةٍ، وشقاوة، وسموّ، وفرح، واشتباك حميم مع الحياة، متباهياً على الدوام بالمدرسة الأخلاقية العالية في قريته عين الكروم، حيث تربّى وجدانياً في كنف صفوةٍ من علماء الأخلاق، وتتلمذ جمالياً على أيدي أرفع أساتذة علم الجمال:‏‏

في ظلّ الأخلاق العالية لأشجار الحور‏‏

ربينا‏‏

وحَفِظْنا كلّ وصايا الصفصافِ‏‏

وكلّ تعاليم الأعشابْ‏‏

تركَتْ نسماتُ الوادي بصْمتَها‏‏

فينا‏‏

أيضاً، لم يمضِ بلا أثرٍ‏‏

ما مرّ علينا‏‏

مِنْ‏‏

مطرٍ‏‏

وضبابْ‏‏

في قصيدة هي من أروع ما كُتِب عن عالم الطفولة، وأسئلتها المُربِكة، بفكاهةٍ، وبراءةٍ، وبِخُبْثٍ لا حدود لطرافته، يقول في قصيدة « وِلادة»:‏‏

صِبْيةٌ بعدُ كنّا صِغاراً جُدَد‏‏

حين جارتنا ولدتْ‏‏

تجمّعَ منّا لفيفٌ،‏‏

جلسنا نُخَمّنُ:‏‏

منْ أين جاء الولدْ؟‏‏

واحدٌ بيننا كان يعرفُ،‏‏

قال الحقيقةَ،‏‏

قال كلاماً عجبْ!‏‏

ولكنّنا لم نُصدّقْ‏‏

وقلنا لهُ: يا قليل الأدبْ‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية