انطلقت الماركسية من نظرية تفسيرية شاملة للتحليل النقدي للسياسة والاقتصاد والقانون والقيم والثقافة . نظريتها عن الدولة كانت في غاية البساطة والدقة في آن واحد . ومبناها أن الدولة - في لحظة تاريخية ما - تعبر تعبيراً دقيقاً عن الطبقات الاجتماعية السائدة في المجتمع . وفكرة «سيادة» طبقة على باقي الطبقات فكرة جوهرية لدى الماركسيين، لأن تحديدها ضرورة من ضرورات النضال الثوري ضدها تمهيداً لإلغاء الصراع الطبقي ، وتأسيس المجتمع الاشتراكي الذي ستختفي فيه الطبقات الاجتماعية ، بحكم تأميم أدوات الإنتاج . وحددت الماركسية طبيعة الطبقة المهيمنة في المجتمع الرأسمالي باعتبارها الطبقة البرجوازية ، والتي لا بد من إشعال وقود النضال الثوري عن طريق أحزاب الطليعة الثورية ، لإسقاطها تمهيداً لتأسيس حكم الشعب . ومع أن الرأسمالية دافعت عن الدولة وضرورتها للقيادة السياسية للمجتمع ، إلا أنها أرادت أن تعتقل دورها الاقتصادي فيما أطلق عليه من بعد في الفكر السياسي «دولة الحد الأدني » وتعني هذه النظرية ببساطة أن وظيفة الدولة هي حراسة الحدود والقيام بمهام الشرطة ، وليس لها اطلاقاً أن تتدخل في النشاط الاقتصادي ، بل تتركه بالكامل للرأسماليين ورجال الأعمال ، من خلال نظرة مقدسة لحرية السوق التي لا ينبغي للدولة أن تتدخل في أدائها ، وذلك لسبب بسيط مؤداه أن السوق - من خلال آلية العرض والطلب - ستنظم نفسها ذاتياً ، وأي تدخل من الدولة من شأنه أن يصيب هذه العملية الأساسية بالاضطراب.
في ضوء هذه النظرية الليبرالية التقليدية قامت الرأسمالية كنظام اقتصادي بممارساتها المعروفة ، والتي تحولت في العقود الأخيرة إلى سيطرة الشركات الدولية على مجمل النشاط الاقتصادي العالمي .
غير أنه يمكن القول إن بعض دعاة الرأسمالية الأذكياء أحسوا منذ نشأتها أن من شأن تطبيقها الكامل تحويل المجتمع إلى طبقتين عريضتين ، طبقة الرأسماليين وطبقة العمال والأجراء الذين - بالمصطلح الماركسي - يبيعون قوت عملهم في السوق، ولا يتقاضون عنها سوى الفتات ، في حين يحصل الرأسماليون على مجمل فائض القيمة تقريباً.
وقد نشأ عن هذا الموقف صراع حاد بين الطبقات الرأسمالية والعمال ، لذلك بادر بعض حكام أوروبا وفي مقدمتهم مستشار ألمانيا الشهير الأمير أوتوفون بسمارك (1815-1898) مهندس وحدة ألمانيا والذي اشتهر بمفهوم السياسة الواقعية والتي بالنسبة إليه تعني درجة من درجات الليبرالية المتنورة ، إلى سن تشريعات للرعاية الاجتماعية الأوروبية ، وذلك حتى يتجنب الصراع الطبقي الذي كان يشعله الشيوعيون . وهكذا يمكن القول إن بسمارك هو رائد دولة الرعاية الاجتماعية والتي سادت الدول الرأسمالية بدرجات متفاوتة ، وخصوصاً عقب الحرب العالمية الثانية .
بعبارة أخرى حاولت دولة الرعاية الاجتماعية بحكم تشريعاتها الاجتماعية التي تتعلق بإعانات البطالة والتأمين الصحي ، أن تخفف من سلبيات الرأسمالية المطلقة التي كانت تدعو إليها النظرية الليبرالية التقليدية .
وبناء على تطورات سياسية واقتصادية معقدة منذ الستينات ، أصبحت دولة الرعاية الاجتماعية مهددة بالزوال ، نظراً لاتجاه الطبقة الرأسمالية للحصول على فائض القيمة بالكامل ، والادعاء بأن الخزانة الحكومية لا تستطيع مواجهة ما تقتضيه برامج الرعاية الاجتماعية من نفقات مالية .
وفي ضوء كل هذا الجدل المحتدم عن الدولة ووظائفها في المجتمع ، والذي اشتعل منذ بداية تشكل الدولة الحديثة واستمر حتى الآن ، وإن كانت مواضيعه تختلف من مرحلة إلى مرحلة ، نستطيع أن نشخص النقاش الدائر الآن حول دور الدولة الاقتصادي، بعد أن حدثت الانهيارات الكبرى في البنوك والشركات الأميركية ، والتي أدت إلى انهيارات مماثلة في أوروبا وآسيا والعالم العربي، والسؤال الأن هو ما الذي أدى إلى إعادة مناقشة دور الدولة ؟ والإجابة هي ما نعرفه جميعاً من تدخل الدولة الأميركية بضخ بلايين الدولارات لإنقاذ البنوك والشركات الرأسمالية من الإفلاس التام ، والذي كان يمكن أن يؤدي إلى الانهيار الكامل للاقتصاد الأميركي .هذا التدخل المباشر من جانب الدولة الأميركية اعتبر انقلاباً عنيفاً ضد المبادئ المقدسة للرأسمالية وهي عدم تدخل الدولة ، وحصر دورها في صيغة «دولة الحد الأدنى».
ويتساءل في هذا السياق جوزيف ستيغليتز أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا قائلاً : هل نحن حقاً في حاجة إلى تجربة أخرى مكلفة تستعين بأفكار أثبتت إخفاقها مراراً وتكراراً ؟ لا ينبغي لنا هذا ، ولكن من الواضح على نحو متزايد ، أننا سوف نضطر إلى تحمل تجربة أخرى رغم ذلك . إن اخفاق أوروبا أو الولايات المتحدة في العودة إلى النمو القوي ، يعني الإضرار بالاقتصاد العالمي بالكامل ، والإخفاق في كل من أوروبا والولايات المتحدة يعني وقوع الكارثة حتى ولو استمرت بلدان الأسواق الناشئة الكبرى في النمو . وللأسف الشديد ، ما لم تكن الغلبة للعقول الحكيمة ، فإن العالم يسير نحو الكارثة بالفعل