والأبحاث الأكاديمية والكتابات الأدبية الصحفية تهتم بعالم بيرانديللو الفريد وتقطره بحثاً وتنقيباً وسبراً لأغواره العميقة
ففي11 كانون الأول المقبل يحتفل العالم باليوبيل الماسي لرحيل الكاتب الإيطالي العملاق لويجي بيرانديللو الذي عاش بين أعوام (1867-1936) وبيرانديللو- الذي نال جائزة نوبل للآداب عام1934- جاء مسرحه بمثابة الصدمة لدراما المسرح التقليدي السائدة منذ مئات السنين, حيث لعب بيرانديللو في ساحة جديدة تماماً وكان أسلوبه مبهراً ومؤثراً في العديد من كتاب المسرح في العالم وخاصة على زملائه في القارة الأوروبية من كبار الكتاب أمثال صموئيل بيكيت وجان أنوي, وجان جينيه وسارتر ويوجين أونيل وفريدريش دورنيمات.
إضافة إلى ذلك فقد تطايرت شهرة بيرانديللو في الآفاق وترجمت أعماله إلى مختلف لغات العالم.
تناقض جدلي
وإلى جانب شهرته الواسعة ككاتب مسرحي وشهرة أعماله المسرحية الكبيرة, مثل( ست شخصيات تبحث عن مؤلف), و(هنري الرابع), فإن إبداع بيرانديللو يمتد باقتدار إلى القصة والرواية, وإبداع لويجي بيرانديللو يعالج بالأساس فكرة فلسفية مركزية تدور حول التناقض الجدلي بين حركة الحياة وثبات الصورة, فلكي تستمر الحياة لابد لها من أن تتآكل, ولكي تتشكل لابد من أن تكون لها صورة ثابتة فيكون الصراع الدائم بين ضرورات الحياة الديناميكية ومتطلباتها الاستاتيكية.
وقد حاول بيرانديللو في مرحلة نضجه الإبداعي أن يظهر هذا التناقض فتناوله من خلال يأس الإنسان من إدراك أي شيء عن نفسه أو عن العالم المحيط به, أما في أعماله المبكرة مثل الأقنعة العارية, فقد ركز علي فضح الكذب وكشف سخرية الحياة وتهافت الحقيقة المفترضة عن طريق تمزيق الأقنعة التي يضعها الرياء والتصنع و تناول الشخصية الإنسانية بين حقيقتها الداخلية والقناع الذي تواجه به الآخرين, حيث تكمن مأساة الإنسان- كما يري بيرانديللو- في محاولته معرفة الحقيقة التي لا وجود لها.. ذلك لأنها نسبية, وغير مطلقة.
فأنت على حق إن كنت تظن ذلك كما يقول عنوان أحد أعمال بيرانديللو المسرحية, حيث تتساءل معظم مسرحيات بيرانديللو ما الواقع؟ وما الحقيقة؟
عاصفة من النقد
وتعد مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف (من أشهر أعمال بيرانديللو المسرحية التي عرضت عام1921, وهي فانتازيا عن ستة أشخاص يزعمون أنهم شخصيات ليس لها مؤلف يوجه أفعالهم, وعندما عرضت لأول مرة في روما انقسم الجمهور حولها بين مؤيد ومعارض, وصاح بعضهم: ضعوه في مستشفى المجانين, بينما تنبهت شريحة واسعة من الجمهور والنقاد إلى أنهم أمام لون فريد من المسرح ومساحة خالية لم يرتدها أحد قبل بيرانديللو, وقد ظلت المسرحية لمدة طويلة موضع حديث النقاد والإيطاليين والأوروبيين على حد سواء, ما دفع المؤلف إلى كتابة بحث طويل يرد فيه على تساؤلات النقاد ويبين اتجاهه الفني في الأدب والمسرح, وكان هذا البحث بمثابة بيان للثورة التي أحدثها بيرانديللو في المسرح المعاصر, وضد مسرح الملهاة السطحية الذي ساد المسارح الأوروبية في الربع الأول من القرن العشرين.
وتعد مشكلة الحقيقة أحد المحاور الأساسية التي ارتكز عليها فن بيرانديللو, فقد تناولها في مسرحيات عدة وعالجها من زوايا مختلفة وربطها بالحياة وبالناس في حياتهم اليومية كونها مسألة فلسفية بحتة. وعن هذه القضية واصل بيرانديللو تألقه في مرحلة نضجه الفني المهمة ليفاجئ قراءه بمسرحيته الشهيرة هنري الرابع عام1922 والتي يتصور خلالها المجنون نفسه إمبراطوراً من القرون الوسطى, و في مسرحية أنت على حق إن كنت تظن ذلك, نرى شخصين يفسران شخصية شخص ثالث بشكل مختلف, وتحكي مسرحية كما تهواني عن راقصة تتمنى أن تحيا حياة امرأة جميلة تشبهها.
ويأتي الثقل الكبير لإبداع لويجي بيرانديللو من كونه فعل مثلما فعل سقراط, فبينما أنزل الأخير الفلسفة من السماء إلى الأرض, فقد جر بيرانديللو الفلسفة إلى خشبة المسرح وزاوج بينها وبين الإبداع الفني, لاسيما في مسرحياته الثلاث (ست شخصيات تبحث عن مؤلف), و(لكل امرئ طريقته), و(الليلة نرتجل).
والآن, ونحن على أبواب العام الخامس والسبعين على رحيل بيرانديللو, فإن أعماله تظل رغم جدليتها صوتاً للبسطاء والحالمين, فأبطاله هم الشرائح الفقيرة والرقيقة الحال.. عامل, فلاح, سائق عربة موتى, موظف, عاشقة خائبة, كما كانت مسرحياته ولا تزال أشبه بالحمم البركانية التي تفجر في كل العقول الجامدة أسئلة حائرة ومقلقة تجر الإنسان إلى مساحات جديدة وشاسعة للغاية من الإبداع والأفكار المتجددة دوماً.