تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الزيارة عندما تكون تاريخية

منوعات
الجمعة 5/12/ 2008 م
ناصر قنديل

يستطيع أي من مناوئي العماد ميشال عون أو من خصوم سورية أن يعتبر إطلاق وصف التاريخية على زيارة العماد عون إلى سورية نوعا من المبالغات التي تستخدمها اللعبة السياسية لتمجيد المحبب إلى قلب صاحبه فيغدقه أوصاف التفخيم,

لكن التدقيق في الحدث من زاوية تحاول الإبتعاد عن الذاتية ببعديها السلبي أو الإيجابي لا تستطيع أن تنكر على الزيارة أبعادا كافية لتجعلها تاريخية:‏

1- الزائر هو قائد الجيش ورئيس الحكومة الانتقالية السابق الذي شن في العام 1989 حرب ضد سورية لإخراج قواتها من لبنان, وهي الحرب التي انتهت بمغادرة الجنرال إلى فرنسا لمدة استمرت خمسة عشر عاما, شكل خلالها المصدر الرئيسي لمعارضة الدور والوجود السوريين في لبنان, فيما كان سائر الأطراف وخصوصا الذين يستعيرون شعارات الجنرال لمعارضة سورية اليوم, عنوانا لحرب إعلامية وأمنية طاولت مناصريه.‏

وبالمقابل كان هؤلاء الطارئون على شعارات السيادة والاستقلال, يتمتعون بلا منافس بخيرات السلطة ومغانمها, وفجأة تذكروا اليوم أنه وفقا لمصطلحات الجنرال لها اسم آخر هو سلطة الوصاية, فالخصومة السورية اللبنانية , إذا صحت التسمية, كانت أصلا مع الجنرال رغم صراخ الطارئين, والمصالحة التاريخية, تتم بين المتخاصمين الأصيلين مهما علا صراخ الطارئين, لأن الآخرين, كل الآخرين قد كانوا يتعيشون على فتات دور سورية, بمن فيهم الذين يدعون خصاما معها قبل انقلاب الموازين, ولا يستطيعون انكار ان مشكلتهم كانت تسول المزيد من الادوار في السلطة الناشئة بعد الطائف, والتي قدموا لها ومن خلالها الغطاء للتصادم مع الجنرال الذي يستعيرون شعاراته رغم انتهاء الصلاحية, وفقا لصاحب حق التأليف.‏

2- المصالحة تمت على خلفية تطورات سياسية كبرى طالت ضفتي العلاقة بما ينفي عنها شبهة الانتهازية او الاستخدام او النفعية والمصلحية, وهي تهم تطول الكثير من العلاقات التي تقيمها الدول المتعاطية الشأن اللبناني بمثل ما هي صفات لا يمكن تنزيه القيادات السياسية اللبنانية عنها, فرغم الواقعية السياسية التي تفرض النظر للسياسة بصفتها التعبير عن المصالح الحيوية لأطرافها, الا ان اتساق المصالح وانسجامها مع المبادئ التي تشكل اطار حركة هذه الاطرف هو الذي يمدها بالمصداقية ويفتح امامها ابواب المستقبل, وفي هذا المجال تسنى لسورية ولقيادة الرئيس بشار الأسد على وجه التحديد التي بقيت عقدا من الزمن في عين عاصفة القرن, ان تكتشف وحتى قبل هبوب العاصفة ان ما كان يحكم علاقتها بلبنان كان زواجا غير شرعي بين تلازم المسارين الذي جسدته قوى المقاومة وحلفاؤها من جهة ومعها اصحاب الخيار الاستراتيجي لسورية في اعلى مراتب القيادة, وبالمقابل تلازم الفسادين الذي جمع اغلب اركان الحكم في لبنان وشركاءهم الذين مهدوا لهم وسهلوا لهم استخدام قوة سورية من موقع تعاقبهم على المسؤولية عن ادارة الملف اللبناني الى ما قبل سنتين من مغادرة القوات السورية لبنان, وقد كشفت الاحداث ان تلازم الفسادين الذي تورط بنهب الكثير من خيرات البلدين, لم يكن حياديا في الموقف من تلازم المسارين, بل كان ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض من موقع ولائه لخيار اقليمي ودولي يبدأ من واشنطن ويمر بالعديد من عواصم المنطقة ولا يخجل من الوصول الى تل ابيب.‏

على ما كشفت لاحقا حرب تموز 2006 كما كشفت الاحداث ان التشخيص المبكر لدى الرئيس بشار الأسد لهذا المرض العضال كان وراء قراره بتعديل الكثير من قواعد العلاقة السورية مع لبنان وقواه ومع المعنيين التقليديين بادارة هذه العلاقة من الجانب السوري, كما كان قراره بعودة القوات السورية الى ديارها وانتظار الفرصة لتنفيذ هذا القرار, وهي فرصة عمل تلازم الفسادين ومن يقف وراءه لتأخيرها ما امكن, والثابت ان تلازم المسارين حقق اعلى انجازاته في اجبار الاحتلال الاسرائيلي للبنان على الانسحاب دون قيد او شرط وبات الدور والوجود في لبنان عبئا على مشروعه, وبالمقابل فإن تلازم الفسادين تلقى الهزيمة تلو الهزيمة رغم وهم الانجاز في انقلاب عام 2005 لتكون ذروة هزيمته مع النصر الذي تحقق في حرب تموز 2006 حيث كان الجنرال في حلف المنتصرين وبالمقابل كان الفريق الذي يمثله العماد عون في النظر إلى العلاقة مع سورية قد رفض منذ البداية الذهاب في الخصومة الى حيث تفقد معنى شعارها الاستقلالي والسيادي, وبالتالي رسم سقفا لهذه الخصومة يربطها بخروج القوات السورية من لبنان, وقد تسنى لهذا التيار ان يختبر العلاقات الدولية وحدود الرهان عليها, فواشنطن وبالتأكيد الكثير من ادواتها وحلفائها في المنطقة لا يهمهم استقلال لبنان, بل يريدون استغلال الخلاف مع سورية لوضع اليد على لبنان, واستخدامه في معركتهم الخاصة مع سورية, وما قاله العماد عون في هذا الشأن كثير وكثير جدا الى حد القول ان كل اسباب التلاقي كانت قد توفرت من زاوية التعبير عن الخطاب السياسي العلني كما من زاوية القناعة الداخلية بقراءة المرحلة السابقة من التأزم في العلاقات.‏

3- من زاويتين مختلفتين تلاقت نظرة سورية للعروبة كمشروع حضاري وسياسي يتقدم في اللحظة التاريخية المصيرية التي تعيشها المنطقة, مع نظرة العماد عون وما يمثله على مستوى الوجدان المسيحي المشرقي, وحالة القلق التاريخي التي يمر بها أمام هول المتغيرات والتحديات, على ضوء الخبرات المختزنة من التجارب والرهانات, فسورية تشعر أكثر من أي وقت مضى خطورة الدمج العشوائي بين العروبة والإسلام, خصوصاً وأنها التي تصر على الموقع المرجعي للبيئة الثقافية التي قدمها الإسلام للعروبة والمحتوى الحضاري الذي أثراها بفضائه, ترى أن العروبة تحتاج إلى شهادة الحضور المسيحي لتذكير العرب المسلمين بخطورة التطرف والظواهر المرضية التي حملتها السنوات العجاف التي لا تزال ترخي بثقلها على المنطقة من جهة, ولتقديم الإسلام كعنوان حضاري مناقض للعنصرية التي تشكل إسرائيل نموذجها الأول والأقوى في المنطقة, والتي لا تخفي سعيها الدؤوب لاستيلاد نظائر لها من ألوان مختلفة, لتكون المحور الذي تدور حوله أجرام من صنفها ولونها, على أساس عرقي أو ديني ومذهبي من جهة أخرى, ويُكتب للرئيس بشار الأسد أنه كان أول من قرأ هذه المخاطر مع بدء الحرب الأميركية على العراق, بالمقابل كان لبنان ولا يزال المكان الوحيد الذي تطلق فيه المسيحية المشرقية قلقها وتتلمس عبره خياراتها, وليس خافياً أن تاريخ هذه الحركة المسيحية الذي عبر عن ذاته بقوة مع المشروع القومي العربي في بدايات القرن الماضي لم يغادر رهانات الحماية الغربية, التي خيمت عليه لقرون طويلة منذ الفتح العثماني وبدء عهد القنصليات والإرساليات, وصولاً إلى نظرية الجالية الغربية التي أراد الكثير من الزعماء المسيحيين تسويقها, وفي هذا السياق تأتي خبرة العماد عون وموقعه لتقدم خلاصات فريدة, تنطلق من الوصول إلى قناعة بأن الغرب يحمل مشروعاً لتهجير المسيحيين من الشرق, وينظر إليهم كجالية سياحية في أحسن الأحوال, ولا يمانع ببيعهم إلى أول من يشتري من حلفائه الأساسيين في المنطقة عندما يكون وقت البيع والشراء قد اقترب, وإن ما جاء به الإرشاد الرسولي عن الاندماج في قضايا المنطقة وهمومها ليس شعاراً يستقوي به العماد عون بل مشروعاً يباهي بدوره في صياغته في ذروة خصومته مع سورية وصولاً إلى مطالبة المسيحيين بحماية الجذور وليس الأغصان فقط, وذلك بصرف النظر عن المتغيرات السياسية, عبر الإصرار على دور ريادي في حمل القضايا القومية, ويحق للعماد عون أن يقدم تجربته في التفاهم مع حزب الله والتي تعمدت بالدم في حرب تموز, كنموذج لهذا الدور الذي يسعى إلى تعميمه على تجربة المسيحيين في العراق وفلسطين ومصر والسودان وهو الواثق أن سورية هي البلد العربي الوحيد الذي لا يعيش فيه المسيحيون أزمة علاقة مع شركائهم في الوطن ولا تدغدغ أحلامهم خيارات الاحتماء بالغرب, جاءت اللحظة إذن لتنطلق من لقاء قصر المهاجرين الذي جمع عماد المسيحية المشرقية مع رائد تجديد الحركة القومية العربية الرئيس بشار الأسد, لاطلاق رسائل متعددة الاتجاهات حول العروبة والإسلام والمسيحية تجاه الداخل والخارج في وقت واحد.‏

4- نضجت في لبنان واستكملت في سورية المصالحة اللبنانية اللبنانية حول مفهوم مشترك للوطنية اللبنانية, بقي ضائعاً لأكثر من قرن من الزمان وكانت سورية حاضرة فيه بمشيئتها ومن دون مشيئتها, وما كان لهذه المصالحة أن تتم دون أن تتوج في سورية, ففي بدايات القرن الماضي خرج اللبنانيون الاستقلاليون تحت شعار الوحدة مع سورية, وكان رجالات الانتداب الذين أصبحوا قادة دول الاستقلال هم الذين تصدروا حركة الانفصال, وعندما أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير رفع اللبنانيون في مدن الساحل العلم السوري رداً على غورو, وبقي مأزق الوطنية اللبنانية قائماً بعد الاستقلال, بين كيانية سيادية ترفض العروبة وتحتمي بالغرب وأغلبها من قوى في الساحة المسيحية, وبالمقابل عروبة نضالية تحمل هموم القضايا العربية من الجزائر إلى فلسطين, وأغلبيتها متجذر في الساحة الإسلامية, ووصف جورج نقاش ذات يوم ميثاق العام 1943 بتلاقي النفيين الذي لا يصنع وطناً, لا للانتداب ومقابلها لا للوحدة , للمرة الأولى وبعدما دار الزمن دورته الكاملة ولدت الوطنية اللبنانية بتفاهم من آلت إليهما راية التيارين, العماد ميشال عون رمزاً للكيانية السيادية والسيد حسن نصر الله رمزاً للعروبة المناضلة, وكان التفاهم إعلاناً عن سقوط نظرية الجالية الغربية عند التيار السيادي وسقوط نظرية انكار الوطن اللبناني عند التيار العروبي, وأعيد ترسيم حدود العلاقة بين الوطني والقومي في ميثاق الوطنية الجديد الذي كتبه الرجلان وانتصرا في حرب تموز تحت رايته, وما بين هذين التيارين كانت دائماً الانتهازية السلطوية المتقلبة على هوى المصالح, فلا مانع أن يصبح فتى العروبة الأغر عراباً لحلف بغداد في مواجهة الحركة القومية العربية التي قادها جمال عبد الناصر في الخمسينيات من القرن الماضي, ولا مانع أن يصبح حارس بوابات دمشق من المختارة داعية حرب على سورية, لكن هذه الانتهازية السلطوية المستمرة منذ أيام فينيقيا الأولى على ما يروي منصور الرحباني في مسرحيته عن زمان الاغريق لم تكن لتعبر عن أي تيار فكري ينظر إليه بجدية, بما هو أبعد من تغيرات موازين القوى وتقلبات السياسة النفعية, لذلك كتب للوطنية اللبنانية الجديدة أن تولد على أيدي أهل التيارين الأصليين وكان لابد لها بعد مقاربتها الجديدة للوطني والقومي أن تتوج حيث كانت قواعد الاشتباك بين هذين البعدين للهوية, في دمشق.‏

5 - لما هو بعيد عن الماضي وتأسيسي على التاريخ لصناعة المستقبل, كما عبر العماد عون في مؤتمره الصحافي إثر لقائه الرئيس بشار الأسد, لا يمكن القفز عن السياق الذي تتحقق في إطاره هذه الزيارة, فالمنطقة تطوي صفحة عاصفة من الحروب الأميركية الإسرائيلية, وتترقب المتغيرات فيما ترتسم في الأفق صعوبات وتحديات سياسية ومصيرية ربما تزيد عن تلك التي حملتها الحروب, فالإدارة الأميركية الجديدة تتلمس طريقها لرسم مقاربتها لأزمات المنطقة وقواها الفاعلة, وساحاتها الساخنة وسط تجاذبات بين صناع السياسة على مسرح المنطقة وامتداداتها الأميركية, ولا يبدو خافياً الموقع المرجعي للصراع العربي الإسرائيلي في هذا الإطار, لبنان وسورية وفلسطين ساحات الصراع المتبقية مع إسرائيل, يتجاذبها اتجاهان لرسم موقعها في هذا الصراع, من جهة إسرائيل وما يسمى بدول الاعتدال العربي وبقوة وزن نفوذ اللوبيات الصهيونية من جهة والمال العربي من جهة أخرى, تسعى لبلورة سياسة أميركية شرق أوسطية عنوانها فصل المسارات لاستفراد مفاوض فلسطيني يجري تطويعه لقبول حل مبتسر يسقط حق العودة للاجئين الفلسطينيين, ويقبل بما لا يمس خطوط الأمن الإسرائيلي, وحصر مستقبل الصراع ببعديه السوري واللبناني بأراضي كل من البلدين الواقعة تحت الاحتلال, مقابل الأمن لإسرائيل بترتيبات لا يخفى أن سلاح المقاومة في أولويات استهدافها, وهذا الخيار في ذهن صناعه يسهل نشوء حلف عربي إسرائيلي يقلب أولويات الصراع في المنطقة لجهة اعتبار إيران مصدراً للخطر المشترك, ومن جهة أخرى يتقدم مشروع حق العودة أولاً بما هو أصل القضية الفلسطينية من جهة, وبما هو البعد الجامع لأطراف الصراع من الجانب العربي مع إسرائيل من جهة أخرى, انطلاقاً مما يعنيه ملف اللاجئين الفلسطينيين وخطورة التوطين الصريح أو المبطن عند ضياع حق العودة خصوصاً بالنسبة للبنان, يأتي العماد عون في الوقت المناسب للبدء ببناء حلف حق العودة بوجه حلف التوطين الذي سيأتي بمسميات كثيرة إذا سقط حق العودة ويجد في دمشق الحاضنة الأولى التي تتمسك بالتمييز بين اتفاق السلام الذي يعني عودة الجولان العربي المحتل إلى الوطن الأم سورية, وبين تحقيق السلام الذي يتوقف على عودة سائر الحقوق العربية وفي مقدمتها حق العودة للاجئين الفلسطينيين.‏

كثير من الكلام سيقال في هذه الزيارة لنفي تاريخيتها لكنه سيؤكد هذه الصفة التاريخية لها, وستأتي الأحداث بأبعادها وانعكاساتها على مستقبل العلاقات اللبنانية السورية, وتفعيل دور المسيحية المشرقية في إطار العروبة من لبنان إلى فلسطين والعراق, كما سيأتي خصوصاً استحقاق رسم الجغرافيا السياسية الجديدة للمنطقة وخصوصاً مستقبل القضية الفلسطينية, وفي قلبه حق العودة, لتؤكد كلها أن هذه الزيارة بعيداً عن المقارنات التاريخية هي تاريخية بامتياز.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية