وقد تكاملت آفاقه وتوحدت آثاره فصار الاغتيال هو قتل الموقف السياسي وتمزيق الفكر ومن ثم إزهاق الروح الإنسانية التي حرم الله العدوان عليها وبأنه من قتل نفساً بغير نفس أوفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً, الآن استحوذت السياسات العربية على هذا (الامتياز) الذي تنز منه رائحة الدم والموجات المتكسرة من الأحقاد وسهولة تأجير النفس واليد للشيطان للمستعمر لرغبات أعداء الحياة الصهاينة
والاغتيال يختلف عن القتل باعتباره ذا وظيفة سياسية واسعة الأطياف وبعيدة الأثر, أما القتل فقد يبقى مجرد جنون ذاتي أوانحراف اجتماعي في الاغتيال تضاف إلى ذلك صفة خطرة هي الهدف السياسي المأجور والذي تسدد قيمته المادية ا لخسيسة بالعملة الصعبة وقد تكون دولاراً أويورو أو جنيهاً استرلينياً ولربما كانت (شيكل إسرائيلي), والاغتيال يتناقض مع الموت باعتباره اعتداءً على حدود الله فهو الذي يقبض الأرواح ويقدر الموت بكتاب مؤجل, حتى إذا ما جاء الاغتيال جاءت معه هذه النزعة المسمومة في الاعتداء عبر عباده الطيبين وفي تشكيلات البشر السياسية والاجتماعية, بالمحصلة نقع على ثلاث صفات للاغتيال هي التي تقدمه وتنتجه وتسوقه في البعدين السياسي والاجتماعي أما الأولى من الصفات فهي تكوين الشخص أوالجهة على قابلية القتل بدم بارد ودون أدنى إحساس بالكارثة وبعيداً عن أي اعتبار إنساني, إن من يغتال ليس موظفاً فحسب وليس ساقطاً فحسب بل هو ذو تكوين شاذ أقله السادية لكن الوصف والتوصيف أبعد من ذلك بكثير وأعمق من ذلك بكثير والصفة الثانية هي التأجير والتوظيف فالاغتيال على مستوى ما حدث في لبنان عبر نموذجه العميد فرنسوا الحاج هو جريمة بأبعاد أي أن من نفذها هو جهة وسياسة ومن طبق حذافيرها المادية هو فرد أو مجموعة أفراد والجميع مأجورون وموظفون لغاية جوهرها الحقد ووسيلتها القتل وغايتها تمزيق الوطن وإحداث الفتنة النائمة أو المستحدثة أما الصفة الثالثة فهي أن الاغتيال يشتمل على الناتج الواضح والفاضح للجريمة مماطاً بالغموض والمجهول وهذا مايترك الآفاق مفتوحة على كل الاحتمالات باستخدام كل الاتهامات انظروا الآن ما الذي جرى على أرض لبنان الشقيق وفي اتجاهاته السياسية إنه هذا النزوع المسبق والمتسارع للقفز فوق الجريمة ولتجاوز أبعادها وحقائقها والعمل بجنون إلقاء التهم على سورية, لم يرتعشوا, لم ينتظروا وقد بدا الأمر مكوناً من فاصلتين, اتهموا أولاً ثم اغتالوا ثانياً وهذا هو مكمن الخطر في الجريمة المشهودة عبرمثالها الراهن, وفي الجريمة المشهودة عبراغتيال رموز لبنانية كثيرة لها ذاكرتها الوطنية دورها الاجتماعي وقيمتها السياسية, لقد استبيح لبنان الشقيق إلى الدرجة التي تتم فيه عملية انتقاء النموذج وإجراء التجارب عليه وتنفيذ الاغتيال في لحظة الاستحقاق التي تلغي كل مبادرة حدثت وتؤهب لكل فتنة سوف تحدث, كيف لنا الآن أن نستوعب حقيقة هذه الجريمة في لبنان الشقيق, كانت سورية بموقفها السياسي قد عبرت عن نفسها وقدمت كل معاني الدعم للبنان الوطن الواحد السيد المستقل الشقيق, لقد انهارت الأوراق التي كتبت بماء الحقد وتحت جنح الظلام بل في جوفه ومادتها الأولى تقول سورية تعطل الوفاق الوطني وسورية هي وراء كل اغتيال, ومع كل مرحلة حينما يسقطون وتتساقط أوراقهم ينفذون الاغتيال السياسي المقصود والمرصود بدقة وعناية لم يألفها الشيطان نفسه, وبموجب ذلك مقدماً ومؤخراً تضيع مصادر النشاط السياسي والإعلامي بشكل فاضح لتلقي التهمة على سورية وهذا يعني أمرين في غاية الخطورة الأول منهما هونقل حقائق الجريمة ومستحقاتها المادية والجنائية والسياسية إلى الطرف الآخر سورية, أي إنهم ينفذون الجريمة بوعي تام وببلاده تامة ويستهدفون سورية بها ومن خلالها, هكذا هو شأن المجرم الاجتماعي ينقل التهمة إلى الأشرف والأقوى والأعلى فكيف إذا كان القاتل هو بنية اجتماعية سياسية بوظيفة اجتماعية سياسية, ولا يؤشر هذا الموقف على حقد المجرم فحسب ولكنه يقدم نسخة كاملة من أوراق اعتماده أداة رخيصة موبوءة محطمة يطلقها مالكها وسيد أمرها في اللحظة المناسبة وتكون تهمة الشرفاء عادة خياراً سهلاً مستسهلاً عند الساقطين المنفذين وعند الساقطين من أولي الأمر القابعين وراء البحار والممتدين من واشنطن إلى تل أبيب إلى الشوارع القريبة من قيادة الجيش في بعبدة والثاني من الأمرين الخطيرين هو الاعتراف الضمني وغير المباشر بأن من اغتال هو ذاته من اتهم سورية ومازال يتهمها, ندرك ذلك بمنسوب سيكولوجي يعرفه علم الجريمة, إن أولئك المأجورين وإن اصطنعوا لأنفسهم مهام اجتماعية وإن صدرت قرارات أميركية بإغداق الألقاب عليهم, وإن بكوا مثل التماسيح فإنهم لن يتخلصوا من رعب هذه اللحظة, والجريمة الفظيعة تغوي وتسد الزوايا والآفاق على المجرم فلا يعود يتحدث إلا عن طرف يختار بعناية ودراية لكي يلقي التهمة عليه, يتصور الفاعل الحاقد أنه بذلك يرتاح نفسياً يقصي من قلبه الأسود ووجدانه المنخور ويده الصفراء المفعمة بالسموم والجبن يلغي شعوره بالمسؤولية عن القتل والقتيل, وهكذا صرنا نرى ونسمع ونتابع كيف تحركت القوى المشبوهة قافزة فوق لبنان, فوق تاريخه وتراثه وقيمه فوق خصائصه العربية وقد تجسدت في الشهيد العميد فرانسوا الحاج, ثم انصبت هذه الغواية المكشوفة في قناة واحدة ذات نسخ متعددة هي اتهام سورية مباشرة وتركيب أوصاف ومقامات واستطرادات مصنعة سلفاً لكي يصاغ الأمر وكأنه أقرب إلى الواقع والجوقة تعرف ذاتها وتتقن فن توزيع الأدوار والمهام وصار لديها خبرة بهذه الوظيفة الموزعة على الأيام والساعات وعلى المنابر ووسائل الإعلام وعلى مواعيد الخارج الأجنبي والداخل اللبناني المنتمي إليه والمرتبط به.
لن تكون المسألة أعني اغتيال العميد الحاج إيقاعية أو ذات نمط فردي أوهوية حديثة جنائية, هم يريدون ذلك كما فعلوا منذ جريمتهم الأولى باغتيال رفيق الحريري ومنذ بداية الفصل الأول من مسرحية الاغتيالات شكلوا الذريعة والمبرر وقد لحظنا كيف استنفرت قوى العالم كله لتكوين مظلة تستبعد البحث في الجريمة وتصدر القرارات السياسية ضد سورية وتبقي الأفق مفتوحاً على الادعاء والتأويل وديمومة نفث السموم على كل من يحمل الهوية الوطنية والعربية والإنسانية في لبنان الشقيق, وها نحن نقول في سورية ليس من منبر السياسة الرسمية فحسب بل بلسان المواطن السوري والمكون أخلاقياً وسياسياً أن الجريمة الراهنة باغتيال فرانسوا الحاج هي مقصودة لذاتها وهي ذريعة لفتنة قائمة أوقادمة وهي رافعة لاحتمالات خطرة يعرف أصحاب الجريمة مساراتها وبرامجها المستورة, في سورية لدينا عقل وضمير لدينا موقف وخبرة لدينا تاريخ ولدينا قيم وهذا مايؤهلنا لكي نحتضن لبنان في قلوبنا ونطلقه ومضة متوثبة في ذواتنا نتعايش معاً نأكل ونشرب معاً ونقاتل ضد المستعمر الفرنسي معاً ونواجه المشروع الأميركي في الخمسينات معاً ونتصدى للاجتياح الإسرائيلي معاً ونحرر الجنوب في النصر الأول والثاني معاً, والآخرون كانوا يتفرجون وكانوا يبنون أمجادهم عبر خيار الموقف الرخيص والمال الحرام والاغتيال المدنس, إن العميد فرانسوا الحاج هو إنسان له زوجة وأولاد وقائد عسكري له خبرة وأمجاد وقرار سياسي عنوانه الأول أن إسرائيل هي عدو لبنان والحياة, ولأنه إنسان وقائد وموقف فقد اغتالوه في الموعد المحدد تماماً.