فاستوقف سكان منطقة الشعلان ومنطقة ساروجة من جميع الفئات والأعمار ليقرأ عوالمهم الداخلية ويترجمها إلى مصطلحات لونية دقيقة الصنع مليئة بالحياة , تختزل مكنونات الفرد ( من وجهة نظر الرسام طبعا ) وأمزجتهم وطبائعهم في بيئتهم لتشكل بألوانها تنوعا هائلا لمجتمع كبير منطلقا من المدارس الفنية الواقعية بأساليب مختلفة فأتت الوجوه بتشكيل فسيفسائي لا يشبه أحدهم الآخر , ينضح بعشق دمشق ومن فيها , الذي يكنه الفنان في داخله لهذه المدينة التاريخية العريقة , التي تتربع في أحلام زائريها المتوافدين إليها رغم كل الظروف القاسية والتلفيقات المغرضة التي تتعرض لها من الطامعين فيها من كل حدب وصوب .
رحب أهل دمشق بالفنان الألماني ووقفوا أمامه ليرسم وجوههم على اختلافها بما تحمله من رؤى وأحلام وهواجس مجسدة بعوالم فسيفسائية التكوين , استضافه أهل هذه المدينة في بيوتهم كعادتهم في إكرام الضيف ولقائه . كان نتاجه 70 لوحة ضمت صورا مختزلة عن أهل دمشق بساكنيها, باسلوب واقعي إلى حد ما ، عكست أمزجتهم وتنوعهم الكبير وبيئتهم ، وانطباع الفنان نفسه عن هذه العوالم .
يقول الفنان يامن يوسف الذي كان حاضرا معه :
إن الألماني الفان فريتز بيست حضر العام الماضي إلى سورية و أقام معرضا في غاليري قزح , واليوم يقدم معرضه هذا في المركز الثقافي البريطاني يرسم فيه وجوه من سورية لأناس متنوعين مثل فنانين و تجار و حتى ملمعي أحذية بالشوارع , وقام بزيارات للأسر الدمشقية في بيوتها , هذا الفنان أصر أن يقوم بمشروعه الثقافي في سورية رغم كل ما سمعه عن الأزمة السورية فهو عاشق لهذا البلد ويشعر فيه بالدفء كما يقول , عمل بانسجام مع أهلها فأحبهم وأحبوه وأكرموه , وهو فنان متمكن يعمل بفن التصوير الواقعي , في هذه التجربة استمد أفكاره وألوانه فيها من البيئة المحلية السورية .
امتد المرسم شهرين متواصلين بعد العرض احتفظ الرسام بنسخته الأصلية بينما حصل كل شخص على نسخة من الرسم كتعبير عن الشكر للمساهمة في هذا المشروع .
الفان فريتز بيست عمل أستاذا للرسم في أكاديمية الفنون البصرية في لايبزغ ومحاضرا زائرا في جامعة الفنون في برلين وكلية لندن للرسم , عرض أعماله في عدّة معارض فردية وجماعية , قام بتأليف عدد من الكتب .
المباشرة والسرعة في رسم الوجوه
في تجربة هذا الفنان شقان ممكن الحديث عنهما مطولا :
أولا :الرسم المباشر السريع :
الرسم الفوري المباشر, يعتمد على التفكير ومعايشة الأحداث , فهو أقرب إلى العمل المسرحي يتفاعل مع الجمهور ويراعى أن يكون انتمائيا بألوان محلية لإرضاء المتلقي , وممكن في هذا الأسلوب أن يكون الرسم بطريقة تسجيلية لخطوط سريعة لبعض الملاحظات أو المشاهد والخواطر لشكل ما في لحظة معينة، أوقد يكون عملاً تحضيرياً لوسيلة أخرى من وسائل التعبير الفني ، ولكنه في أحيان كثيرة يكون عملاً فنياً مستقلاً قائماً بذاته .
وثانيا رسم الوجوه :
يعتقد البعض أنها أصعب ما يمكن رسمه , لأنها لا تحتمل الخطأ أو التغيير, ولأن لأصحابها رأيًا بها، وإذا لم تعجبهم فهذا يعني أنها رسومات فاشلة , إذا كانت مباشرة ؟! من هنا يمكن القول: إن الفن يؤدي وظيفة أخرى تتمثل في مخاطبة الذكاء والوجدان من خلال ما ينتجه الفنان بدءا من الخط ودلالته واستعمالاته وقيمه , إلى عنصري الظل والنور وعنصر اللون , أضف إلى ذلك إبراز تعبيرات الوجوه , والاستعمال الديناميكي للخط واللون , والضوء , ثم قراءة الوجوه , وكشف خبايا النفوس , تلك العلاقة الفلسفية المتداخلة بقوة في هذا النمط من الرسم , فالوجوه البشرية كلها لها التعابير والملامح نفسها، لكن أحيانًا توجد تفاصيل يستمتع الفنان برسمها وينسجم معها ، وأحيانًا العكس , يعني أن يقام معرض لرسم الوجوه بشكل مباشر , تجربة جديدة وجريئة , ونجاحها مرهون بكل ما تقدم .