هذا العام تكتسب أهمية خاصة ومميزة بل وخطيرة بالنسبة اليهم لعدة أسباب أهمها , أولا : بلوغ الكيان الإسرائيلي سن الستين أو وقوفه على «عتبة الشيخوخة» على حد تعبير بيني موريس احد كتاب المؤرخين الجدد ,وثانيا: النظرة السوداوية القاتمة التي تسم تحليلات أغلبية المؤرخين وعلماء الاجتماع الإسرائيليين المتصلة بمستقبل إسرائيل وثالثا : الأحداث الكبيرة والخطيرة والمصيرية التي حدثت خلال هذه المرحلة التاريخية الطويلة نسبيا وتأثيرها عليه , وأخيرا وليس آخرا ما يمر به مجتمع هذا الكيان من جدل حاد هذه الأيام حول أكثر القضايا أهمية ومصيرية والمتصلة بمستقبله.
فإذا كان الجدل الداخلي الإسرائيلي الحاد الحالي يأخذ طابعا امنيا استراتيجيا يتصل بالوجود الإسرائيلي وسبل استمراره وما بات يعرف بحسب تقرير شعبة الإستخبارات العسكرية لهذا العام بحزمة الأخطار والتهديدات الاستراتيجية الوجودية المحدقة بإسرائيل في هذه المرحلة الراهنة والمستقبلية, فانه في ذات الوقت يطال الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية ,ولأن إسرائيل منذ قيامها ربطت مستقبلها بقوتها وتفوقها عسكريا فان المؤسسة العسكرية تشكل محور هذا الجدل بحكم صلاحياتها ودورها في صناعة السياسة الإسرائيلية .
و رغم ان الأسئلة الوجودية الكبرى التي تطرحها إسرائيل على نفسها هذه الأيام هي في جزء كبير منها نتاج لهذه المرحلة التاريخية من عمرها , لكنها باتت أكثر إلحاحا نتيجة للتطورات الداخلية-والخارجية(العوامل الذاتية والموضوعية) السياسية والاجتماعية الديمغرافية والاقتصادية- والإقليمية والدولية التي تركت تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على المجتمع و السياسة والاقتصاد والجيش وعلى مناحي الحياة في إسرائيل كافة في العقود الأربعة الماضية ,بدءا من التحولات الكبيرة التي ألمت بالعالم في نهاية القرن الماضي والتي انعكست ايجابيا على موازين القوى الإقليمية لمصلحتها ,مرورا بمؤتمر مدريد ومن بعده اوسلو و وادي عربة واندلاع انتفاضة الأقصى واحتلال العراق وانتهاء بالانسحابين من جنوب لبنان وقطاع غزة .
ويعتبر كثير من المراقبين ان سر النجاح العسكري نظريا وميدانيا الذي حققته إسرائيل في كثير من الحروب التقليدية التي شنتها ضد الفلسطينيين والعرب يستند في جانب كبير منه الى مجموعة الأفكار التي وضعها مبكراً بن غوريون والتي عرفت فيما بعد بالنظرية الأمنية اشتق الجيش الإسرائيلي منها عقيدته القتالية على قاعدة»ان اسرائيل لا تستطيع حسم الصراع مع العرب بالوسائل العسكرية , ولا تستطع ان تتحمل هزيمة عسكرية واحدة» إذ استطاعت إسرائيل بالفعل ان تدخل في الوعي العربي الرسمي مقولة عدم تحقيق أية انتصارات عسكرية عليها وتجسد ذلك في اتفاقية كامب- ديفيد التي أخرجت مصر من دائرة الصراع العسكري ومن بعدها اتفاقات اوسلو ووادي عربة التي حيدت بدورها جزءا من الفلسطينيين والأردن من دائرة الصراع ذاته, غير ان التطورات التي طرأت على الصراع العربي - الإسرائيلي في العقود الأربعة الماضية ولا سيما في جانبه العسكري قد حملت نوعا جديدا من الحروب أطلق عليها الخبراء العسكريون الحروب منخفضة المستوى أو الحرب اللامتماثلة تبين ان لا طاقة ولا مقدرة لأكبر الجيوش في العالم وأكثرها تطورا وامتلاكا للتقنيات في حسم هذا النوع من الحرب أو تحقيق أي من الأهداف السياسية ,فقد جاء العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز من العام الماضي ليؤكد هذه الحقيقة.
على الصعيد الاجتماعي : تآكل المناعة الاجتماعية وفقدان حافز التضحية وسيادة ثقافة الفردية وتدني شعبية الجيش وانعدام إقبال الأجيال الشابة على الخدمة العسكرية والتطوع في الجيش,وفقدان إسرائيل لبريقها لدى التجمعات اليهودية في العالم .
ومنذ ان حلم بن غوريون بتحويل الجماعات اليهودية المهاجرة إليها الى «بوتقة للصهر» عندما أرسى جملة من التناقضات الرئيسية والثانوية بين مختلف شرائح وخلفيات هذه الجماعات المهاجرة على اعتبار ان المشروع الصهيوني وتجسيده المادي إسرائيل خاص بجماعة يهودية اثنيية اليهود الغربيون-الاشكناز.وان مجرد الوقوف أمام الانقسام التاريخي بين اليهود الغربيين(الاشكناز)-الذين يمثلون نسبة55% من سكان إسرائيل واليهود الشرقيين ( السفارديم) الذين يمثلون45% من مجموع السكان يثبت ان هذا الانقسام لم يكن عابرا أو سطحيا كما توحي به الدعاية الرسمية الاشكنازية الحاكمة بل ان هذا الانقسام قد تطبع بطابع حقيقي وثابت واستند الى نظام التراتب الاجتماعي واليات إنتاج الطبقات الاجتماعية التي تعرفها البلدان الرأسمالية الاستعمارية والى الانقسام في المراكز والأطراف.
وبات هذا الواقع المنقسم يشكل اكبر المعضلات الكبيرة والشائكة التي يواجهها الكيان الإسرائيلي إذ يجد نفسه وبعد ستين عاما أشبه بتجمع بشري يضم أعراقا وثقافات وطوائف مختلفة ومتناقضة الى حد بعيد , لكنه وبحسب شهادة البروفسور سامي ساموحة أستاذ علم الاجتماع في جامعة حيفا يفتقر الى ثقافة تعددية حقيقية وأساسية .
ديموغرافيا , احتلت المشكلة الديموغرافية حيزا كبيرا في الفكر السياسي الاستراتيجي الإسرائيلي مؤخرا في ظل تشكل إجماع يهودي-صهيوني حول تحقيق أغلبية ديموغرافية يهودية مطلقة في نطاق ما سمي ارض إسرائيل فلسطين التاريخية وما رافقه من جدل إسرائيلي مستديم حول « الخطر الديموغرافي الوجودي الذي يشكله العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر والضفة الغربية وقطاع غزة تم التعبير عن هذا الجدل وحول المسالة الديموغرافية بالتحديد في مؤتمرات هرتسيليا الذي يحمل عنوانا دائما ميزان المناعة والأمن القومي إذ عالجت إحدى وثائق المؤتمر المسالة الديموقراطية من منطلق ان الديموغرافيا تشكل أهم الأسلحة وأكثرها مضاءا التي يملكها الطرف العربي عامة والفلسطيني خصوصا والتي من شانها ان تشكل « خطرا وجوديا» على طبيعة وماهية إسرائيل «كدولة يهودية, وتعطي الوثيقة وزنا كبيرا وخطيرا لما أسمته بالتهديد الديموغرافي الفلسطيني المتأتي عن نسبة التوالد الطبيعي لدى الفلسطينيين في مناطق عام48والضفة والقطاع وتعتبر الوثيقة ان وجود عربي واحد من اصل خمسة يهود في إسرائيل اكبر خطر وجودي يواجهها في العقود الثلاثة القادمة ولان هذه النسبة مرشحة للوصول الى واحد من ثلاثة خلال السنوات العشرين القادمة .
والقضية التي لاتقل أهمية عن المسالة الديمغرافية والمرتبطة اشد الارتباط بها هي قضية الهجرة اليهودية, وفي وقت أصبحت فيه تحتل رأس قائمة اولويات جميع الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة في العقدين الأخيرين على ضوء نضوب خزان الهجرة اليهودية في دول روسيا الاتحادية وامتناع يهود أوروبا وأمريكا الشمالية القدوم الى إسرائيل وفشل مشروع شارون في استقدام مليون يهودي من دول أمريكا اللاتينية , والاهم والأخطر من ذلك كله هو الهجرة المعاكسة وخاصة العودة الجماعية لليهود الروس الى وطنهم ألام على قاعدة ما ذكره التقرير السنوي لمراقب الدولة بان أكثر من مئتين وخمسين ألف يهودي روسي قد عادوا الى وطنهم خلال خمسة العشر سنة الماضية الى جانب تدني منسوب الهجرة اليهودية .
وفي الجانب الاقتصادي: وعلى أهمية المنجزات الاقتصادية التي حققتها إسرائيل فانه لا يجب ألا يغيب عن البال الأثر الخاص لنضج الهياكل والبنى التنظيمية والسياسية المتصلة باقتصاد اليشوب اليهودي قبل إقامة إسرائيل وتبلورها وتطورها وما جرى لاحقا من إضفاء نزعة عسكرية غير مرئية على جميع البنى الاقتصادية الاسرائيلية , لكن مقتل هذا الاقتصاد بحسب» مناحيم كلاين» اشهر ألمحللين الاقتصاديين في صحيفة هآرتس يكمن في استمرار الصراع العربي- الصهيوني وما يخلفه هذا الاستمرار وخاصة في جانبه العسكري من انعدام استقرار وتباطؤ في وتائر نموه وأزمات بشكل عام وكذلك تأثره المباشر بالأزمات المالية وفي رأي كلاين: «أن الأزمة في الأسواق المالية التي طرأت على الولايات المتحدة في تموز 2007 نقلت عدواها إلى الاقتصاد الإسرائيلي أيضا.
لكن تأثير أزمة الاقتصاد الأمريكي يتجاوز:الاقتصاد الإسرائيلي ليشمل الأمن والجيش والمجتمع»في رأي رون بن يشاي في يديعوت أحرونوت
وفي الخلاصة يمكن القول ان ما يطرحه يحزكيل درور من صورة تشاؤمية بهذه المناسبة يؤشر أيضا الى مصير إسرائيل المجهول ني نظر كثير من كتابها ومثقفيها: ليس في إنجازات الماضي ما يضمن المستقبل. في الظروف المتغيرة بسرعة, في عصرنا, ما نجح في الماضي من شأنه أن يفشل في المستقبل. وبالتالي فمن الحري ان تترافق احتفالات اليوبيل بحساب عسير للنفس, فما بالك والمجالات ( كثيرة) التي نوجد فيها على منزلق سلس وتعمل كآلية للدمار الذاتي.إسرائيل هي «مجتمع مغلق». الخلافات في مواضيع مركزية تمنع الحسم حتى عندما يكون هذا لازما من ناحية وجودية.