تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


كمال أبو ديب :المدينة أيقونة ما بعد الحداثة

شؤون ثقا فية
الأحد 18/5/2008
هناء الدويري

المدينة في تاريخ الحضارات بقيت اشكالية ومحط جدل لدى الشعوب وما كان يحددها ويلغي ما عداها سابقا, بات اليوم شيئاً آخر,

فالقرار السياسي والاقتصادي والتطور التكنولوجي على الأغلب هو الحاسم في المستقبل, وبكل أسف المصلحة والبقاء للأقوى في ظل ممارسات قد تكون أبشع ما مرت به الحضارات هي التي ستفرض نفسها لتحديد المدينة بمفهومها المركزي والأشمل وربما تكون هذه نظرة تشاؤمية بعكس ما يكون قد طرحه الباحث والكاتب كمال أبو ديب في بحثه الذي قدمه في مركز رضا سعيد وذلك ضمن فعاليات المؤتمر الدولي /المدينة والثقافة دمشق انموذجا/ الذي نظمته الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية .2008‏

حيث بدأ بكلام نظري عن المدينة بشكل عام ثم عاد ليعرِّف بها من منظوره الخاص حيث قال:في مقياس غير مرتبط بمكان دون آخر إن كينونة عمرانية ما لا يمكن أن تكون في العرف مدينة إلا بالنظر إلى دورها في التمدن وفي إنتاج المكونات الحضارية وإلى مدى تأمينها لمقومات التمدن والحضارة وفي الصميم من ذلك كله الثقافة الحية المولدة الثرية المتطلعة دائما إلى التجاوز والتجديد وفي صميم الصميم خطية البحث والتأمل والامتناع والتعبير عن ذلك كله دون قيود أو حدود.‏

ثم عرض لمفهوم الثقافة على أنه ليس نتاج مدينة بل نتاج وجود تجمع بشري أي أنها نتاج الرمال والبحار الواحة والمرفأ, الجبل والسهل, البداوة والحضارة, العزلة والتجمع, الفردية والجماعية وقال: هنا لا أعني المفهوم العام الشائع الذي يربطها بصورة طاغية بالإنتاج اللغوي والتعبير الفني التشكيلي والموسيقي الذي يقصي منها مساحات شاسعة للمدينة .‏

بل أعني الفعاليات في بيئة تحويل المادة الخام إلى مادة مصنعة بصورة يبرز فيها فعل اهتمام جمالاتي وقد يكون فعلاً جمالياً واعياً مقصوداً وقد يكون غير مقصود عفويا لا واعيا وبهذه الصورة تنضوي ضمن الثقافة فاعليات التصنيع وأنظمة القيم, فإنتاج الأثاث الدمشقي في باب توما وباب شرقي فاعلية ثقافية ونتاج ثقافي بالقدر نفسه الذي تقوم به نتائج قصائد نزار قباني نتاجا ثقافيا.‏

وتطريز السجاد أو البسط والألبسة في حوران وعين دابش وفي صافيتا فاعلية ثقافية ونتاج ثقافي بالقدر نفسه أيضا .‏

وهذا التحديد للثقافة يتناسب بشكل غير مقصود مع الاشتقاق الأصلي للكلمة في اللغة العربية.‏

فالثقافة اشتقت من تثقيف الرمح وصقله وتقليده ويتضمن إنتاج الرمح, تحويل الخام إلى مصنع, وثانيا فعلا ذا اهتمام جمالاتي متمثلا في الصقل والتقليد.‏

ومقارنة التصور العربي للثقافة مع التصور الأوروبي لها وهو المشتق من اليونانية والذي يربط الثقافة جذرياً بالزراعة وتنمية البذور ورعايتها, تنشأ الخصيصة الأشد التصاقا بالحضارة من أيٍّ غيرها وهي أنه رغم هويتها المأثرة لا تكون أبدا متجانسة فالثقافة الفعلية الحية ليست متجانسة على عكس ما هو سائد في معظم ما نكتبه من عربية خاصة من هذا الأمر.‏

ولا تكون وحيدة البعد فشيخ المحشي في دمشق غيره في صافيتا لكن كلاهما ينتميان إلى ما يشكل هوية المائدة السورية وهذا ينطبق ويصدق على مفهوم العرس ودفن الموتى وكتابة المسلسلات, ويمكن أن تقول في مكان آخر إن المدينة تشغل المركز في عملية تناميها وتحيل كل ما عداها إلى هوامش وتدخل المدينة طبيعيا في نمطين رئيسيين من العلاقات.‏

أولا: العلاقة بين المركز والهوامش‏

ثانياً: العلاقة مع الذات ومكونات الذات‏

مفارقات في العاصمة‏

ويغلب أن تتحلى مدينة واحدة في كل بلد باسم مائز وكنية لاصقة هي العاصمة وفي العاصمة مفارقة محزنة فالعاصمة تعصم لكن معصومها ليس واضحا هل تعصم البلد, والحق أن العاصمة تاريخيا معصومة أكثر مما هي عاصمة فحين يدهم خطر خارجي بلدا ما ينهش كل ما فيه من أطراف قبل أن يبلغ المدينة العاصمة ليفترسها .‏

في علاقات المدينة بالهوامش تلعب المدينة دور المسيطر المهيمن والممتص فهي تستقطب وتبتز وتسلب وهي تمص دم الهوامش لتزدهي وتروي نفسها.‏

ونادرا ما تولي الهوامش أولوية في أي مسألة فدمشق عاصمة الثقافة العربية وكل من يتحدث في هذه المناسبة يتحدث عن دمشق وهكذا تزدهر المدينة فيما تهمل بقية المدن والهوامش والمدينة في هذه الحال /داخل/ في مواجهة /خارج/.‏

المدينة تنفي ما عداها‏

ودمشق المدينة انموذجا, الداخل في علاقته بالخارج في الثقافة العربية وتجسده في دمشق يمثل بصورة نادرة الاستثناءات نفيا سلبيا للخارج ويصدق ذلك على كل شيء من هندسة البيت الدمشقي إلى تصميم المدينة وموقعها الجغرافي إلى العلاقة بين الأحياء وبين الأسرة والأسرة.‏

المدينة بفعل تكوينها مجمع ومستقطب لهجرات وبشر وعشائر وقبائل وغيرها ومجموعات وأفراد من كل حدب وصوب وكل منهم يحمل معه ثقافته الخاصة ونظام قيمها الخاص فالمدينة من هذه الوجهة تنوع وتكاثر ولا تجانس وتناقض وتنافر لكن المدينة تسعى لفرض عقائدية واحدة انصهارية ونظام قيم واحد ونموذج ثقافي فرد على كل من فيها, هكذا تكون في حالة توتر دائم وصراع داخلي ومن هنا أزمتها الدائمة والتحدي الدائم لقدرتها على البقاء والاستمرار والصراع المبطن أو المعلن.‏

المدينة موقعا في الحداثة‏

والمدينة من حيث كونها أيقونة لما بعد الحداثة كانت المدينة في عصر الحداثة موقع لا أكثر لما تحمله الحداثة من فكر, ومثلت عقائديا النزوع إلى مفهوم البوتقة والتوحيد الانصهاري لعناصر بشرية وعرقية وفنية متباينة تسعى جميعا إلى أداة واحدة تمثل ما وصفته الحداثة بالتقدم, وكانت منبتاً لأكثرية أصيلة تفد عليها جماعات متباينة يطلب منها بل يفرض عليها الانصهار في البوتقة الموحدة .‏

وكان ثمة تعارض جوهري بين المدينة والفكر الحداثي الناشىء فيها, فقد كانت تيارات هامة في هذا الفكر تربطها بطرق وأساليب متعددة وترفض المقومات الفلسفية التي قامت عليها وتسعى إلى تغييرها وإحراز بدائل من صنع المدينة .‏

فالحداثة تصورت نفسها حركة كلية وشمولية تمس كل ما في الحياة من السياسة إلى الممارسات اليومية في الحياة, لكن الأمر لم يحدث بالطرق التي تصورتها فقد ظلت الحداثة عملياً نخبوية ولم تحول المجتمعات تحويلا كاملا بل سادت فاعليتها ومقوماتها في قطاعات دون أخرى جغرافيا وثقافيا وبرزت قوى شديدة المعارضة لها في كل مجال من مجالات نشاطها, وفي الشعر العربي الحديث الكثير مما يمثل هذا الموقف من المدينة أدونيس مثلاً.‏

المدينة الراهنة أيقونة ما بعد الحداثة‏

لا أرى المدينة الراهنة موقعاً وحسب ما بعد الحداثة بل هي تجسيد أسمى لما بعد الحداثة, أيقونة ما بعد الحداثة ففي هندستها وفي تشظيها ونشوء الحيزات والفضاءات المنفصلة فيها وفي دور العناصر المتباينة في صنعها وفي علاقة هذه العناصر بعضها مع بعض تمثل المدينة الراهنة أيقونة لعرب ما بعد الحداثة والأسس الفلسفية لها كما تمثل الإنتاج الابداعي للعناصر المتباينة فيها .‏

والأيقونة بالمعنى المحدد تحول من فلسفة الوحدة الانصهارية إلى فلسفة المجاورات ومن جماليات التشابه إلى جماليات التجاور وفي كل ذلك من جماليات التمثل والحلول إلى جماليات الاختلاف والاحتفاء بالمطابق والمشترك إلى الاحتفاء بالمختلف والمغاير ومن الاصرار على الهوية الواحدة إلى تأكيد الهويات المتباينة ومن الصفاء والنقاء إلى التوليد والهجنة.‏

اتسمت الحياة المعاصرة ابتداء من سبعينيات القرن العشرين بسمتين رئيسيتين:‏

1- انهيار مفهوم المركز عامة والمركز خاصة ونشوء ظاهرة تعدد المراكز.‏

2- انهيار العقائديات الشمولية الكلياتية وبزوغ عقائديات الأقليات والهامشية.‏

بمعنى أن مفهوم المركز والهامش انهار عربياً كما انهار عالمياً ورغم فترة لا تتجاوز عقداً من الزمن بدا فيها العالم وحيد المركز متمثلا بالولايات المتحدة الأميركية فإن الواقع تجلى عن بزوغ مراكز جديدة من الهوامش أولها الصين وثانيها الهند وقد تكون البرازيل ثالثها.,‏

وحدث انزياح بل إزاحة في الاطار العربي للمركز التقليدي للحياة العربية من /دمشق, بغداد, القاهرة, بيروت/إلى الهوامش /منطقة الخليج وشمال افريقيا/ وأصبحت الهوامش مركز الفعل السياسي.‏

والإنتاج الثقافي لم يعد عربياً كما كان بل أصبح خليطاً, ودمشق من كل هذا هي في قلب الحدث وهي لا تعي ذلك هل تكون دمشق قادرة على تحمل واقع موت الفكر الوحدوي الانصهاري? وانهيار فلسفات النقاء العرقي والثقافي..?!‏

فتقبل التعدد والتنوع والتمازج والتوليد أو الهجنة هل تعتبر ذلك كله تشظيا وخلطا محرما وإفسادا للنقاء يجب أن يوضع له حد بنصل اللسان أو بحد السيف وهل تقبل دمشق أن ثقافة المركز ليست مركز الثقافة الآن? فتختفي بروز الهوامش وتدخل في حوار معها أم تعتبر ذلك خللاً تاريخياً وخطأ تاريخياً ينبغي تقويمه والإجابة في دمشق وحدها.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية