يستمع لهن من السقيفة، حيث اضطره استيقاظ رجل البيت مبكراً للاختباء فوق. كان يشعر ثرثرتهن كضرب المطارق على عقله الفارغ إلا من فكرة الهروب التي ينتظر أن تسنح بأن تخرج النسوة وتبقى تلك المرأة لوحدها مع ولدها الصغير وإنْ اضطره الأمر، أن يقفز أمامها وينطلق نحو الباب ويولي الأدبار، فتتبعه صرختها. هذا لم يحدث فالمرأة، خرجتْ من البيت، تذكّر لحظتها دعوات أمّه له بالتوفيق.
أثناء انتظاره في السقيفة فكر بالتوبة التي ستأتي يوماً كنوع من التقاعد الوظيفي، ولأن مهنته خطرة فالتقاعد المبكر مسموح. وإذا حدث وابتسم له الحظ بسرقة معتبرة، سيقدم استقالته وسيستغفر الله، ولا بد لله أن يستجيب وإلا كيف تحميه دعوات أمّه .
قطع استرساله نداء أحد المساجين معه في المهجع الذي يحتوي على عشرين سجيناً، تكاد السرقة هي القاسم المشترك بينهم، ليخبره أن إبريق الشاي قد جهز. رفع جسمه المتثاقل عن السرير المعدني وخطا عدة خطوات نحوه ونطق بهدوء: تسلم أبو حميد.
جلس قربه وبدأ بارتشاف الشاي.
أبو حميد دافع عنه لحظة دخوله المهجع وقال بصوت عالٍ: الذي يمسّه يمسّني. وكان أبو حميد، هو المسجون الوحيد عن جريمة قتل، وعليه، الجميع هابه وكثيراً ما مثّل لحظات غضبٍ أطاحتْ بأجساد سجناء صغار الحجم في الهواء، فكانت هذه التمثيليات الرادع النهائي لكل من يفكر أن يتحرش فيه أو ينصب نفسه معلماً عليه وفي الوقت نفسه هو لم يطلب الزعامة وهكذا كفى أبو حميد رفاقه بالمهجع شرّه وهم بادلوه بالمثل.
سأله: لماذا حاميتْ عني؟
نظر أبو حميد ليد مظهر اليسرى المقطوعة من الكوع وقال: بسبب هذه اليد المقطوعة، أنتَ أخذتَ جزاءك وسجنك هنا ظلم بحقك، أليس جزاء السارق قطع يده؟
أحنى مظهر رأسه وحرّك يده اليمنى ونظر في الفراغ الذي يُفترض أن يده اليسرى كانت تملؤه. كثيراً ما يحس بعظامه المهشّمة وآلامها المبرحة، أحياناً يرغب بحك باطن يده أو يشعر بأنّ أصابعه تحترق وقد قال له الطبيب ذلك، إذ ستمضي فترة لا بأس بها يحسّ فيها كأنّ يده موجودة.
مظهر ليس يسارياً، فهو لا يكتب بيده اليسرى أو يأكل بها، كانت مجرد يد مساعدة لليمنى التي يفعل بها كل شيء. كانت اليسرى لاحقة، تابعة ومع ذلك أبعدها عن أعمال اليمنى، فكان لليمنى النشل والخفة في التقاط النقود من الجيوب والأدراج المفتوحة والقدرة على التعامل مع الأقفال وكأنّ لها عيناً ترى بها داخل القفل؛ في حين جعل اليسرى خاصة باللحظات التي يداعب فيها وجه حبيبته أو يدخلها بشعرها أو حتى عندما يعطي نقوداً من عرق جبينه لأمّه عندما عمل حمّالاً، بشكل أو آخر كان يجري فصلاً بين ما يكسبه بالحلال وما يكسبه بالحرام.
الفصل الذي أقامه مظهر بين ما يكسبه كان أقرب لتبييض الأموال، فهو يعتقد بأن إنفاقه على أمّه سيكسبه حسنات دعواتها، كذلك ما يعطيه للشحاذين وأصدقائه، وكثيراً ما رفض استرجاع ما أعطاه وخاصة عندما تكون يده اليمنى قد أكسبته مبلغاً محترماً.
في ظلام المهجع، يحدق بالسقف ويرفع البقية الباقية من يسراه، يغوص في الفراغ، فتبدأ الأصابع بالتشكل، إبهامه الذي بصم به على هويته للمرة الأولى، بنصره الذي يضع به خاتماً ذهبياً بفص أزرق، الشعيرات الموجودة على ظهر كفه والجرح القديم نتيجة سقوطه عن حرف البيت وهو يتدرب على التوازن بالمشي عليه، مكان الساعة الأكثر بياضاً من باقي يده المحروق بالشمس، يحرك أصابعه، فيستشعر ملمس النقود من فئات صغيرة كان يعطيها لرفاقه وأكثر.. ملمس وجه حبيبته وشعرها الذي كان يتدفق كالماء من بين أصابعه.
يحدق أكثر، ليرى نفسه كالفأر الذي أمسكتْ به المصيدة. الخزنة الضخمة قد أغلقتْ بابها بسرعة خارقة دافعة جسده للخارج غير ممكنة إياه من سحب يده.
لم يتصور يوماً أن ذلك ممكن الحدوث ولم يره بأيٍّ من الأفلام التي تبتدع طرق جديدة للسرقة والتي كان يستلهم منها الكثير؛ فأن تكون الخزنة تستعيض عن صعوبة فتحها بأن تطبق على يد السارق لم يكن بحسبانه، وقتها خرجتْ منه صرخة قاسية ارتج لها القصر الكبير.
قُطعت يده ويعرف الآن أن السبب في ذلك كان الدرج الصغير في الخزنة الذي تركه للأخير وما أن فتحه حتى أطبقت عليه، وقطعت يده اليسرى؛ لا؛ ليس الدرج بل الطمع.
ينفض خيال يده اليسرى ويحاول أن ينام.
••
يتمشى هو وأبو حميد في ساحة السجن؛ يدخنان سوية.
يقول مظهر لأبي حميد: مازالتْ موجودة، أحسّ بها، هذه اليد لا تريد أن تختفي.
يجيبه أبو حميد طالباً منه الصبر وحمد ربّه، فلو كانت اليمنى هي المقطوعة لصعبت عليه الحياة كثيراً.
يرمي عقب سيجارته، يسحقه تحت قدمه
- أتعرف؟ ينبّهه سؤال أبي حميد.
- ماذا أعرف؟
يُكمل أبو حميد: لم أكن أقصد أن أقتله ولكن ذلك حدث بسرعة وكأنّ شخصاً آخر هو من فعلها، وإلى الآن في الليل أجده يحدق بي، بنفس الطريقة وأنا أدفعه ليسقط من أعلى البناء الذي كنا نعمل على تجهيزه، شبحه يلاحقني، حتى أنّي أخاف في الليل.
يصمت مظهر قليلاً، تتردد كلمة الشّبح في رأسه فيتذكر إخبار الطبيب له أن إحساسه بيده المقطوعة يُسمى مرض الشّبح.
الشّبح، روح هائمة لن تستقر حتى تنتقم، حتى تنتقم من الذي قتل جسدها.
نزلتْ كلمات أبي حميد على سمع مظهر كالصاعقة وهو يحدق بفراغ يده اليسرى المقطوعة من الكوع وكأنه وجد الجواب، لماذا لم يكن الجزاء بحق يده اليمنى السارقة.
•مرض الشبح، هو الإحساس بأن الأطراف المقطوعة مازالت موجودة، وقد يستمر مؤقتاً أو طويلاً.