رصفوه بالمرجان، بالمهج الفتيّة بالعقيقْ
رفعوا القلوب على الأكفّ حجارةً، جمرًا، حريقْ
رجموا بها وحش الطريقْ:
- هذا أوان الشدّ فاشتدي!
ودوّى صوتهم
في مسمع الدنيا وأوغل في مدى الدنيا صداه
هذا أوان الشدّ!
واشتدتْ... وماتوا واقفين... متوهجين
متألقين على الطريق، مقبِّلين فم الحياة!
هكذا وصفت الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان الشهيد. الشهيد، الشمعة التي تحترق ليحيا الآخرون، وهو إنسان يجعل من جسده جسراً ليعبر الآخرون إلى الحرية وهو الشمس التي تشرق إن حلّ ظلام الحرمان والاضطهاد وهو نجمة الليل التي ترشد من تاه عن الطريق.
الشهيد الذي احتفلت به دار الأسد للثقافة والفنون «أوبرا دمشق» بالتعاون مع الجمعية السورية لدعم أسر الشهداء، كما شاركت في التنظيم دار الفنون بفعالية متنوعة تحت عنوان «راية الشهيد».
بناء مجتمع قوي ومتماسك
الجمعية السورية لدعم أسر الشهداء «تموز»، جمعية غير ربحية تأسست عام ٢٠١٢ تعنى بدعم أسر الشهداء بما يضمن لهم سبل الحياة الكريمة، كما تعمل على تعزيز مشاركة المجتمع وفعاليته في دعم عائلات الشهداء في سبيل بناء مجتمع سوري قوي ومتماسك مؤمن باستقلال وحرية الوطن من خلال احترام مكانة الشهيد ودوره الأساسي في بناء الوطن. ولهذه الجمعية نشاطات عديدة منها تمويل البعض من أسر الشهداء في إقامة وتنفيذ مشاريع صغيرة، تقديم التمويل اللازم لبناء مسكن لعائلة شهيد والإشراف على إنجازه وتجهيزه، تقديم مساعدات مالية وعينية لعائلات أسر الشهداء في مختلف أنحاء الوطن، مساعدة بعض أسر الشهداء في إنهاء الأوراق المطلوبة للحصول على وثيقة الاستشهاد. التعاون مع إدارة هيئة مدارس أبناء وبنات الشهداء، والإشراف على رعاية مخيم “راية الشهيد” الذي أقيم لأبناء الشهداء في منطقة النبي متّى في محافظة طرطوس وتمويل إنتاج فيلم وثائقي قصير «ناداهم البرق» عن يوميات المخيم، وقد تم إنجاز هذه الأعمال بمساعدة أهل الخير والمتطوعين من أبناء سوريا الحبيبة.
وعندما سألنا إحدى السيدات وهي من المشرفات على نشاط هذه الجمعية عن تعريفها للجمعية قالت: «من رحم الأزمة في زمن العناء، من أجل دماء الأبرياء ودموع الأطفال والشيوخ والنساء، من أجل من بذل النفس فداء، ومن أجل أرواح الشهداء كان تموز الوفاء».
أما دار الفنون الشريكة في هذه الفعالية هي فضاء ثقافي يحتضن ويدعم إبداعات الشباب السوري ومركز تنويري يعنى بكافة أنواع الفنون والثقافة، انشأ عام 2007 ومستمر إلى الآن. استقبل كافة الفرق الموسيقية السورية وورش عمل من مسرح وسينما. أطلق منذ بداية الأزمة مبادرات وطنية عديدة منها ترميم دار الأمان للأيتام الذي دمر بالتفجير الإرهابي في كفرسوسة، ومبادرة خبز وملح لاستقبال المهّجرين وتأمين حاجياتهم، باص العيد: توزيع هدايا لمشفى الأطفال ودور المسنين، مخيم راية الشهيد: مخيم تعليمي وترفيهي لأبناء الشهداء في النبي متى/ دريكيش.
كلمات تمجد سورية
بدأت فعالية «راية الشهيد» ببازار خيري تضمن العديد من الأشغال اليدوية الجميلة جسدت جلّها المعاني الوطنية وكلمات تمجد سورية وتعبر عن الحب والامتنان لهذا البلد العظيم الذي تعدى كل الصعوبات منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا. وتجمع الزوار حول منتجات البازار ليقتنوا بعضها كأشياء جميلة يحتفظ بها المتذوقون لهذا الفن الجميل، من جهة، ومن جهة أخرى يتبرع قدر استطاعته لأسر الشهداء، هذا الإنسان المقدس الذي روى تراب الوطن بدمه.
وزينت جدران الصالة المخصصة للمعارض في دار الأوبرا، بلوحات رسمت بأنامل صغيرة، أطفال شهدائنا، وعبر كل منهم عن حبه للوطن ودفاعه عن ترابه، عبروا عمّا بداخلهم من خواطر جياشة تجاه ما يحصل الآن في سورية، والمؤامرات التي تحاك ضدها من شتى بقاع الأرض، كما عبر المعرض عن الجمال برؤية الطفولة، حيث رسم بعضهم مناظر طبيعية، والطفولة بشكل عام. واعتبر هذا المعرض أيضاً بمثابة حافز ليرسخ حب الوطن في قلوب الأطفال وإيصال ما عبروا عنه إلى المتلقي عن طريق التعبير بالرسم وببراءة الأطفال، ويأتي هذا المعرض بعد ورشة عمل أقامتها الجمعية السورية لدعم أسر الشهداء «تموز»، لأطفال مدارس أبناء الشهداء، بإشراف العديد من الفنانين التشكيليين السوريين الكبار.
وفي مسرح الدراما وقف الحضور دقيقة صمت إجلالاً لأرواح شهدائنا العظماء، ومن ثم نشيد الوطني السوري، وبعدها ألقيت كلمة الجمعية السورية لدعم أسر الشهداء «تموز»، والتي تطرق فيها ممثلة الجمعية إلى أهمية تأسيس هذه الفعالية، وما قدمته لأسر الشهداء، كما شكرت كل الذين شاركوا في إنجاح هذا النشاط الكبير، وكل من تبرع لهذه الجمعية الإنسانية بكل ما تعنيه من الكلمة.
راية تنطق صوتاً وصورة
وتضمن القسم الفني للفعالية عرض فيلم «ناداهم البرق»، حيث تناول الفيلم مادة تسجيلية وثقت لأيام مخيم راية الشهيد الذي نظمته الجمعية السورية لدعم أسر الشهداء بالتعاون مع دار الفنون، أياد صغيرة تصافحت في النبي متى قرب دريكيش كنشاط رسمته ابتسامات وجوه صغيرة اشتاقت الفرح بين أحضان الطبيعة الرائعة فنصبت الخيام وأوقدت النار ورفعت راية الشهيد واجتمع الأطفال حولها فجمعتهم الراية والشهيد فكانوا جميعاً من أبناء الشهداء وذويهم. واستمرت فعاليات المخيم خمسة أيام من المحبة والحيوية في تلك المنطقة الغالية من الوطن، فانتهى المخيم وبقيت راية الشهيد مرفوعة إلى أن تلقفها المخرج المبدع المهند كلثوم وكيف لا وهو ابن الشهيد أيضاً فتسلم الراية وجعلها تنطق صوتاً وصورة برؤية إبداعية رائعة نضعها اليوم بين أيديكم لتستمر الرسالة ولتبقى الراية مرفوعة تنتظر أيادٍ جديدة تمسك بها.
وقدم فيلم «ناداهم البرق» مادة بصرية عالية المستوى حققها كل من كاتب الفيلم ومخرجه بالاستناد إلى ما قام أبناء وبنات الشهداء بتصويره أثناء أيام المخيم عبر كاميرا الهاتف المحمول؛ حيث استطاع صوت الإعلامية هيام الحموي إضفاء شخصية خاصة على الفيلم من خلال قراءتها للتعليق المكتوب للمادة البصرية، وقد نجح هذا العرض التسجيلي في تحقيق وثيقة خاصة عن حياة أبناء وبنات الشهداء
ونجح فيلم «ناداهم البرق» في الإضاءة على لحظات عالية من المصداقية عبر صيغة بصرية تسجيلية حققها كلثوم عن «إسماعيل» موظفاً براءة اللحظة الطفولية التي شاهدها جمهور دار الأوبرا حيث تلقف المخرج كلثوم هذه اللحظة جاعلاً من ضحكات الأطفال وخطواتهم في غابات الساحل السوري سيمفونية بصرية لافتة في تناولها لحياة الأطفال عبر قدرتهم على رفع راية الفرح والأمل لغد أفضل سيشاركون فيه ببناء وطنهم الذي ضحى آباؤهم من أجله.
«ناداهم البرق» إخراج المهند كلثوم، كتابة النص سامر محمد إسماعيل، موسيقى الشارة منال عبدو، مونتاج: حسن محمود، مكساج سعيد المانع، غرافيك سامر عشي، تعليق صوتي الإعلامية القديرة هيام حموي.
باقة من الأغاني الوطنية
ولم يكن الغناء الوطني غائب عن هذه الاحتفالية، طالما تعتبر الأناشيد الثورية والأغاني الوطنية من أهم العطاءات الإنسانية التي كانت ومازالت تواكب حياة الشعوب والأوطان وثوراتها لاستنهاضها ودفاعها عن أرضها وتاريخها، حيث أدت المغنية السورية ليندا بيطار بمرافقة مجموعة من الموسيقيين السوريين باقة من الأناشيد والأغاني الوطنية إضافة إلى بعض من الرحبانيات افتتحتها بأغنية «شآم ما المجد» أعقبتها بأغنية «بيقولوا صغير بلدي» وأغنية «وطني» إضافة لأغنيات «طير الوروار، نسم علينا الهوى». وتضمن المجموعة الموسيقية كل من الفنانين محمد نامق على التشيللو وإبراهيم كدر على آلة الناي ورامي كنجو على آلة القانون وعامر دهبر على آلة إيقاع.
والمغنية ليندا بيطار، خريجة المعهد العالي للموسيقى في دمشق سنة ٢٠٠٧ اختصاص غناء شرقي، مغنية صولو في أوركسترا طرب والأوركسترا العربية وشاركت بعدة مهرجانات داخل سوريا وخارجها منها: «إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا، أوكرانيا، الإمارات، تونس، البحرين». شاركت ليندا كمغنية صولو مع موسيقيين كبار منهم صباح فخري، نوري اسكندر، طاهر مامللي، مارسيل خليفة وزياد الرحباني، كما شاركت في تسجيل الألبوم الأخير للسيدة فيروز.
كما تخلل احتفالية راية الشهيد توزيع بطاقات «شفا» على أسر الشهداء وهي عبارة عن بطاقة للطبابة المجانية، وأيضاً كرمت الاحتفالية المخرج المهند كلثوم والكاتب سامر محمد إسماعيل.
كلمة لابد منها
لم يقف الشعب السوري يوماً أمام الغزاة مكتوف الأيدي، بل كتب نضاله من الأزل على صفحات التاريخ بخطوط عريضة، فشهداء الثورات السوريّة في تاريخها المقاوم العريق وشهداء 6 أيار 1916 الذين شنقوا في ساحات دمشق وبيروت من قبل عناصر الجلاد جمال باشا السفّاح ومروراً بشهداء ميسلون والجلاء وحروب التحرير ضدّ العدو الصهيوني. هذه الاحتفالية التي أقيمت لتكريم أنبل بني بشر ذكّرتنا برموز تضحيات الشعب السوري وبجهد أبطال الاستقلال من يوسف العظمة وسلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي ومحمّد الأشمر وكل ثوار سورية الذي أوصلوا الوطن إلى الاستقلال وإلى جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض الوطن بعد نضال مرير قدّمت فيه التضحيات والشهداء لإنجاز الاستقلال الذي شكل بداية مرحلة تاريخية مشرفة من مراحل نضال الشعب السوري وجسراً للعبور إلى مراحل متقدمة أرست الأسس لبناء سورية الحديثة.
هذه المناسبة كانت بمثابة نداء لنا جميعاً من أجل الصحوة، وإدراك ما يحصل حولنا، وما يحصل من زرع الفتن لتقسيم وطننا، وما يحاك ضد المنطقة ككل، وزرع الكراهية بيننا، نحن الفسيفساء السوري الجميل، نداء يذكرنا بشهدائنا، وكلمة حب لابد أن تربطنا ونحن اليوم بحاجة إليها أكثر من أي يوم مضى.