مواد نقية الانتماء، لا يذهب بها الاسترسال والاستطراد نحو خلط فني تقني؟
سؤال نكش دماغي وحفّزني بعدما جلس بجواري وقال: لمن تكتب، إذا كانت نسبة الأمية في المجتمع العربي تنافس أعداد أرغفة الخبز، وإذا كان القارئ العربي قد تدنت مخصصاته إلى صفحة لكل عشرة آلاف نسمة، وإذا كان اتحاد الكتاب العرب يطبع ألف نسخة للكاتب الجهبذ، يُحتجز نصفها في مستودعاته إلى ما شاء الله.. وإذا كان.. وكيف أجيب عن سؤال اضطرني إلى ابتلاع ثلاث حبات نكاية بارتفاع الضغط؟
حملتني دوخة نالت مني إلى شذرات ونتف تجمّعتْ في رأسي وتكومت بين صدغيه، برزت من بينها صورة صاحبٍ اهتمّ بالثقافة أمداً طويلاً، غير أن اهتمامه توقف عند اقتناء الكتاب، دون تمييز بين مؤلف شهير ومؤلف مغمور، وبين عنوان باهت وآخر مثير، وكان يُرجِئ قراءة كتبه إلى وقت لاحق، حتى صار تراكمها أكبر من خياراته، وصارت قدراته على المطالعة لا تتلاءم مع هذا الميل.
لو أردنا أن نضع خاتمة لهذه القصة المبتورة، فإننا سندخل في متخيلات مثيرة للضحك، أو هي تنتمي في تصنيفها إلى شيء من الكوميديا السوداء.. أبدؤها مع تكهن لا يتفق مع العقل العربي ويجافي منطقه، سوف أفترض أن صاحبي قد أعلن عن بيع مكتبته في مزاد علني، وأنه نشر إعلاناً عن رغبته في كل وسائط الإعلام العربية، المقروءة والمسموعة والمرئية، حتى إذا جاء اليوم الموعود والساعة المحددة لملتقى البيع، رسا المزاد عليه وحده، لأن راغباً واحداً لم يحضر.
ولعل تخميننا الثاني سيكون أقرب إلى المنطق، عندما تعتبرون صاحبي انتقل من دنيا الفناء إلى دار البقاء، فآل حصاد عمره من الكتب إلى ورثته، وهؤلاء تخلوا عن حصصهم هدية لأخيهم الصغير، الذي حار بما يفعل بكم هائل من الورق الأصفر المغبر، لتنتهي حمولة كبيرة من الأسماء والعناوين نهايات لن أجاهر بها، بقصد اللعب على الخواتيم المفتوحة للسرد الأدبي.
بقي لدي احتمال فانتازي قد لا يخطر ببال بباحث أو مستكشف، سوف نفترض معاً واقعاً مستجداً طرأ على هذا الإرث، وندخل من باب التطور في علوم تكوّن الأحياء، ربما وصلنا إلى فرضية لم تحصّلها قصص الخيال العلمي، التي نذهب مع بعضها مذهباً فيه من التخريف أكثر مما فيه من العلم، فنتخيل تعفن الورق على الرفوف وضمن الصفوف، ومن ثم ولادة حشرات لا هوية لها على لوائح التصنيف الحيوي العالمي، فأخضعها العلماء لروائز الذكاء الحشري، ووجدوا أنها تفوقت تفوقاً لافتاً على جنسها بعدما شبعت قراءة وقرضاً مما خلّفه صاحبي وراءه.. فتخيلوا يا رعاكم الله.