الفضيلة، الأخلاق.. وغيرها من طاقات يختزنها الإنسان الفعّال في كنهه ليفيض بها على مفردات الزمان والمكان، ليجسّد الدور الذي خصّه الله به كسيد للمخلوقات في بناء عالمٍ أكثر أمنا وجمالاً وحياة، عالمٍ يسوده المحبّة والرخاء، عالم يرفل بالسعادة للكل وبالكل.. السعادة التي تخالطها اللذة بحسب رأي أرسطو جرّاء العلم والسعي في طلبه فللعلم لذة وسعادة، وفي السعي أيضاً لذة كبيرة. فيعتقد بأن “اللذة يجب أن تخالط السعادة. ومن بين الأفعال المطابقة للفضيلة أيها يلذ لنا ويرضينا أكثر هو، وباعتراف جميع الناس، تعاطي الحكمة والعلم. اللذات التي تجلبها الفلسفة يظهر إذن أنها عجيبة بطهارتها وبكونها مؤكدة. وهذا السبب في أن العلم سعادة أكثر ألف مرة من طلب العلم”.1
من هنا يمكن لنا أن نردد ونعيد مع فيلسوفنا ونسأل كيف ومتى يمكننا تحقيق هذه السعادة الممزوجة باللذة من العقل والحكمة والعلم، وكم مضى من الزمن.. من اشتغال العقل بكل مغامراته بدءاً من وقوفه في سالف العصور السحيقة - والممتدة إلى عشرات الآلاف من السنين بحسب آراء الاختصاصيين - على قدميه متأملاً الشمس والقمر والريح والبرق والرعد ليعيش بعدها حالات الرعب والخوف والعجز أمامها، عاش حالات الموات الحقيقي ليقف من جديد بأسئلته الكبرى أمام نفسه، أمام دموعه وحزنه، ولينأى بأطرافه إلى غاباته وإلى كهوفه ليتركها تعبّر عن تلك الأعاصير التي عصفت بعقله وبقلبه؛ تارة بالعدو وتارة بالرقص وصولاً إلى استخدامه الشابكة ودخول عوالم النت، مروراً بحالتة الرعوية والتدجين “الحيوان والنبات” وسكنه الكهوف والرسم على جدرانها ومن ثمّ استقلاله وخروجه إلى المسكن الطيني الخاص وبدء رحلة الاختراعات والاكتشافات متجاوزين تعدادها والتي تعكس حيوية العقل البدئي إلى مرحلة بناء الحضارات الكنعانية والسومرية والبابلية والآرامية..الخ دون ترتيبها زمكانياً.
في تلك الآونة كان الإنسان العربي قد تبلورت لغته، وتنامت وتطورت ككائنٍ حيٍّ طبيعي وسط أجواء صحيّة تعكس نمو ملكاته، تلك الحضارات المنتشرة بين بلاد الشام وبلاد الرافدين ووادي النيل. نعم بدأت وبدأ الكلام نتيجة تنامي العقل ومغامراته كما قلنا ومنه ستتمثل وتمثّلت فعلاً بالكتابة وفق تعبير أرسطو في أن الكلام تمثيلٌ للخبرات العقلية، والكتابة تمثيلٌ للكلام.
إذاً الكتابة اختراع قام به الكنعانيون «ولعلّ أعظم ما قام به الكنعانيون هو اختراع الأبجدية الذي اعتبر من أهم منجزات الحضارة البشرية وتفوقت الكتابة بالحروف الأبجدية على الكتابة بالمقاطع المسمارية التي كانت شائعة آنذاك ومن حينها اجتاحت الأبجدية الكنعانية الألفبائية كل الرقم والدواوين والتسجيلات التالية، مع بقاء المفردات والأسس والمصادر في متن اللغة نفسها بحيث نستنتج أن هناك لغة واحدة ولكنها أخذت لهجات تطورية عديدة..».2
ومع ظهور الكتابة وعلومها بدأت تُترجم كل حالات التأمل، وما يقوده أو ما يمكن أن يضفيه على حياة الإنسان من سكينة وطمأنينة أكثر منها من قلق وخوف باعتبار التأمل أعلى صورة للنشاط العقلي وباعتبار الإنسان كائن متأمل - العربي بالتحديد - لكل مفردات الله من قمر وشمس وماء ونار وريح وبرار..الخ متأمل للوجود وسابح في قدرات واجب الوجود.
بدأت تترجم هذه الحالات التي تنتابه إلى إبداع وخلق على رقم طينية، فامتلأت مكتبات كل مملكة آنذاك ومملكة ماري «تل الحريري» أنموذجاً إذ تشير المكتشفات فيها بالعثور على أكثر من عشرين ألف رقم طيني مكتوبة بلغة مسمارية تؤرخ للحضارة الأكادية وسابقاتها.
وإلى الغرب على الساحل السوري كانت كما قلنا تتشكل أول أبجدية عرفتها البشرية وهي معاصرة لماري. نعم إنها أوغاريت، وكما تشير الدراسات إلى العلاقة القائمة آنذاك بين الأمير الأوغاريتي و»زمري ليم» ملك ماري والزيارة التي قام بها للاطلاع على قصره الذي كان أعجوبة في البناء ورافقه في رحلته حمورابي بفريقه لحراسة الأمير في طريقه الطويل3.
وفي شبه الجزيرة العربية سطرت أعظم وأرقى النصوص على «العسب»/ جريدة النخيل وعلى «اللخاف»/ حجارة بيضاء رقاق، وعلى الرقاع كذلك. هذه الكتابات وثّقت وأرّخت لتاريخ الحضارات بكل رموزها وعواملها وركائزها، من فن وفلك وأدب وشعر وطب.. وكل أنواع العلوم والآداب والفنون عموماً. كل هذا التطور وهذه المغامرات العقلية للإنسان قاد إلى ظهور أرقى وسيلة ثقافية معرفية بالتاريخ.. قاد إلى ظهور الكتاب والمكتبات، ولكن كيف ومتى وأين ظهر أول نص عربي على هيئة وشاكلة كتاب؟
هذا يحتاج إلى وقفة خاصة أخرى وقد يطول الحديث به فلنتركه لغير موضع ونقول: لقد اختلف الكتاب والباحثون فيما بينهم وكان لكل منهم اجتهاداته الخاصة والمراجع المختلفة التي أتى بها لتدعيم رؤيته. وبين يدينا الآن كتاب للدكتور والباحث المعروف عمر الدقاق، كتاب اجتهد صاحبه كثيراً في بحثه فكان الجهد واضح وجلي وكانت الآراء المقدّمة والمعتمدة على مراجع لا تتجاوز المدّة والعصور الزمنية التي فتّش بها وعنها أي الأموي منها والعباسي وبخجل صدر الإسلام، الآراء التي قدّمها في مدخل أو مقدمة كتابه المعنون بـ «مصادر التراث العربي في اللغة والمعاجم والأدب والتراجم» والصادر عن مكتبة الشرق شارع سوريا - بيروت مغفل من ذكر تاريخ الطباعة. والذي رأينا حال تصفحّه انه لا يخرج كثيراً من عباءة كتاب جاء تحت عنوان «مصادر من التراث والبحث في المكتبة العربية» للباحث الأستاذ الجليل أيضاً محمود فاخوري والصادر عن مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية - جامعة حلب - عام 1409هـ / 1989م. أجل لم يخرج من تلك العباءة لا من حيث التبويب ولا حتى الفصول ولا الأسماء المتناولة للبحث والدراسة.
قلنا هذا قبل أن نعلم أن تاريخ إصدار كتاب الدكتور الدقاق سابقاً لكتاب الباحث الفاخوري، إلا أننا وبعد حديثنا مع الباحث الأستاذ محمود فاخوري بهذا الموضوع أكد أن كتاب الدكتور عمر الدقاق كان تاريخ صدوره سابقاً لكتابه إذ كان أيضاً مقرراً جامعياً آنذاك وهذا ما يبرر برأي الباحث كل هذا التشابه كون المقرر يتطلب البحث بهذه الأبواب والفصول وحسب فكان لكل اجتهاده في البحث والإضافة وأكّد أيضاً أن كتاب «حركة والتأليف عند العرب» لأمجد الطرابلسي لا يقل أهمية لا بل وسباقاً لكتابينا بالإصدار. وأيضاً ليس هذا مرادنا.
لنتجاوز كل هذا ونقول مستندين على ما جاء في مقدمة البحث والكتاب عن تاريخ التدوين والتأليف والذي قد نختلف معه في جوانب ونتفق في أخرى فيقول باحثنا الدقاق في ظهور أول نص عربي على شاكلة كتاب «كان القرآن الكريم أول نصٍّ عربي كامل اتخذ شكل كتاب».4
لينتقل بعدها في أسلوب سردي ماتع ويتحدث عن بداية التدوين ومراحله الأولى إلى أن ينتهي بسطوع شمسه في العصر العباسي الأول، ويزدهر في تالي العصور، وتزدهر حركة التأليف مع ظهور صناعة الورق وحرفة الوراقين والناسخين.
هوامش ومراجع :
1 ـ أرسطو طاليس، علم الأخلاق الجزء الثاني ص354 المترجم من اليونانية إلى الفرنسية وبمقدمة وتعليق على يد بارتلمي سانتهلير أستاذ الفلسفة اليونانية في الكولج دي فرنس ثم وزير خارجية فرنسا. ونقله إلى العربية أحمد لطفي السيد مدير دار الكتب المصرية/ إصدار مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة ـ 1343 هـ ـ1924 م
2 ـ الدكتور جمال الدين الخضور، عودة التاريخ، الجزء الثاني ص145 دار الفرقد للطباعة والنشر سورية، دمشق 2010
3 ـ ايفا شترومينغرـ تعريب: قاسم طوير، ماري أكبر حضارة في سوريا. منشورات المديرية العامة للآثار والمتاحف ـ1983 ص10 نقلاً عن موشور الفصحى ـ نصر الدين البحرة ـ الهيئة العامة للكتاب ـ الكتاب الشهري السابع والعشرون ص35
4 ـ الدكتور عمر الدقاق ـ مصادر التراث العربي في اللغة والمعاجم والأدب والتراجم ـ صادر عن مكتبة الشرق شارع سوريا ـ بيروت ـ مغفل من ذكر تاريخ الطباعة، ص59.