من تحت أقدامنا هذه سيبزغ الفجر من جديد ومن دمائنا هذه ستنبت ورودٌ حمراء تعلن أن الشهادة أزكى قرنفلة يعرفها البشر، وعلى كل الروابي والسهول التي استباحتها القدم الهمجية.. تضوع عطراً لاتعرف الأرض مثله.
قدر الأرض أن تودع أبناءها بإهاب من جمر قانٍ يشعل لها الأفق ويرد عنها الأمواج الهوجاء.
إنه في المحصلة: الإنسان.. الإنسان العظيم الذي يعطيها معناها وقيمة وجودها.. الذي يعطيها في هذا الكون: السكينة والاستقرار وقدرة الكشف والديمومة.. بل يعطيها اللهب والماء، ويسوّي عسف اليوم: ألقاً للآتي!!.
تلك هي الحياة وذلك هو الإنسان العظيم منذ بدء الوجود.. وهكذا هو رحيل الأحبة واحداً بعد الآخر، ويقظة بعد الأخرى، وغياباً إثر غياب.. ونحن لا نستطيع شيئاً إلا النظر والانتظار!!.
يرحل الأحبة قامةٍ بعد قامة: شهداء ومودعين مستعجلين وكأن الأفق لاينتظر!! يرحلون فرساناً في ساحة الحياة نحو اللامرئي حيث الخلود والديمومة.. وحيث تصير النفس الإنسانية إلى فضاء رحبٍ يشرف على ذرى الأبدي واستمراره اللا محدود.. وتصير إليه في النهاية، تحمل حقيبة ملأى بالمواجع والذكريات.. وتنتصب في ذلك الفضاء علامةً ودثاراً لما يجب أن يكون.
هكذا ترحل القلوب: قلباً بعد الآخر.. ونبضاً إثر نبض: ولا تتعب من ذلك الرحيل الأبدي الذي لا بدّ منه!.. إنها القلوب: مشكلة الحياة ومعضلتها!!.. مشكلة الحياةِ والرحيلِ ألا تبقى قلوب لتنبض.. ولا مخّيلة للذكرى!.
في سفر الرحيل تبحر «الأنا» في عالم «المطلق» دفعة واحدة.. وتصغر المسافات والأبعاد حتى لكأن الكائن ماكان !! أو وحتى كأن وجوده الذي يفسر الوجود: هو قبض ريحٍٍٍ أو هو المسافة الفاصلة بين النسمة والعاصفة.. فالإنسان المعلق في الفضاء بين الأنا كذاتٍ للوجود وبين المطلق القاهر.. ينوس خلالهما: طاقةً خلاقةً.. مبدعةً وثابةً.. تبني الكون فتكتسب من خلاله وجودها المبدع الجميل.. وتعطيه شرعية وجوده!!.
في يوم من الأيام أعطى الإنسان الأرض والوجود قيماً كبرى لأنه «كما قالت الأساطير»: كان إلهاً ثائراًً، فسرق للإنسانية سرّ النار والمعرفة.. ودفع «برومثيوس» ثمن ذلك التجاذب بين الماء والنار.. بين الخلق والمعرفة!! أيّ قيمةٍ وأي فلسفة تمليها هذه المعادلة النادرة؟!.
النار: خلقٌ؟.
التراب خلقٌ طبع وهاج مبدع وضاءٌ يسبغ على الكون عبقريته فتجلّ رماده؟!.
إنها أعجوبة الكون وسخريته في آن.. وخضوع النار والمعرفة والذات الكونية: لبهاءٍ وقدسية الكشف وتثبيت المعرفة!.
إنها بهاء الخلق أساساً.. وإنها عبقرية التراب الذي سما فوق الجبلة ليبدع أفقاً لاتتوقعه!!.
ويمعن « خلال عذاباته» :صنعاً وتجلياً وإبداعاً: فيصنع ويبدع لها الحقيقة القاتلة!.. إنه سارق المعرفة وسارق النار ومسوي الغد الآتي إذ يلفلف حولها جناحي الدربة والصنعة الذكية!.
إنه الإنسان: تلك الذات العظيمة في مواجهته المحنة الكبرى!.. هو لايرحل بالمعنى الكلي وإنما يعود في دورة الحياة من البداية إلى البداية المستمرة.. هذا هو الإنسان سيد الأرض ومسوي صورتها الجميلة للذات الكبرى، فتنصب عجينته الترابية: سيداً للأرض وسيداً للنار و سيداً للملائكة إذ تسجد لعظمته!.
في سفر الرحيل رغم قساوة الفاجعة: تنهض الذات الكونية لتجعل من لحظة الفراق والغياب: منطلقاً نحو اللقاء!.
هي ذي الأرض تقول: هذا الطالع من صلبي هذا الصانع الأعاجيب: يظل في البقاء والرحيل، سيد الراهن والغد الآتي.. ومعطراً ترابي بدمائه التي تبدع الإيثار والولادة.
وعندما افتداني رحل منّي إليّ وبشّرني بالغد الذي لايغيب.. فمن ناره وجراحه صنع لي ولأولادي: عالماً من بقاءٍ وعزة..ومن ناره التي أحضرها: أوقدت شعلة الحياة، وأعدته من صلبي كي يمسك الأفق والفجر بأنامل من جمر وعطور.. ويفتح لأبنائي من بعده: سفر الخلود والشعلة الأبدية!.