تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عــــــن الشــــــــعر: قراءتــــــــه - ترجمتـــــــــه - إلقـــــــاؤه

ثقافة
الأثنين 16-2-2009م
ممدوح السكاف

تستوجب قراءة الشعر عند قرائه النوعيين الاصطفائيين أجواء وطقوساً لا بد من توافرهما حتى تتم عملية التذوق الفني له على وجه أفضل،

فتحصل من جراء ذلك المتعة والفائدة في آن معاً بطريقة أمثل فتراهم يغلقون على أنفسهم الأبواب في هدأة الليل ومع الموسيقا الناعمة يأخذون بالانسياب مع هذا العالم السحري الغريب ويغيبون في حالة رؤيوية، ويعتبر آخرون من قرائه العاديين التبسيطيين أن قراءتهم للشعر تأتي من قبيل التسلية والسلوى وإزجاء الوقت وملء الفراغ فيقرؤونه بلا اهتمام أو اكتراث ومن دون تعمق في معانيه ومبانيه وفي أي مكان وزمان وبلا رغاب جمالية ودوافع بديعية نابعة من ذات مشغولة بهاجس الشعر وهواجسه.‏

قال لي صديق يهتم بقراءة الشعر ويحب عالم الشعراء: أنا لا أبتاع إلا قليلاً كتباً تضم مجموعات شعرية، وإذا فعلت فإن تعاملي الخاص معها.. قلت: كيف... أنا أعرفك قارئاً جيداً وجاداً للشعر، تهضمه.. تتمثله، وقد تعيش مفرداته... مضامينه، أبعاده... سلوكاً حياتياً يغنيك إنسانياً ويرفدك ثقافياً، وينمي شخصيتك ككل.. فما بالك؟ قال صديقي وهو يوضح رأيه ويبين موقفه: أنا أهوى قراءة الشعر المنشور في المجلات الأدبية الرفيعة الراقية.. أقتني المجلة.. أقرأ بحثاً.. دراسة.. حواراً.. ثم أتركها.. عند المساء.. في السهرة.. أعود إليها فأقرأ أي قصيدة موجودة فيها لأي شاعر، فتكون قراءتي لها بمثابة واحة.. ظل وغدير ومياه.. ونسمات هفهافة.. في صحراء الدراسات والنقود والوعي العقلي، تهب علي القصيدة عاطفة ونغماً.. خيالاً وصوراً.. إيحاءً وإشعاعاً.. مغامرة واندفاعاً.. لهفة وحرقة.. فتزحمني بشحنة نفسية، وتكهربني بإيقاع متوتر..!.. قلت: وكيف تفعل إذا اشتريت مجموعة شعرية؟ قال: أقرؤها منجمة على دفعات.. أقراً القصيدة الأولى.. أترك المجموعة أياماً.. ثم أعود فأقرأ القصيدة الثانية.. وقد أنتقل من مجموعة إلى أخرى حتى أدفع عن نفسي تأثيرات شاعر واحد.. أشكل وألون.. وأحيا تعددية تأثيرية لعوالم شعرية مختلفة... قلت له: لكن الجمال في الوحدة والانسجام والاتساق.. قال: وأيضاً في التنوع والتجدد والتباعد.. ودعت صديقي.. في نفسي أضمرت: لعل تجربته مقنعة.‏

لا شك أن قراءة الشعر قراءة جادة، تعني استبصاراً به ومعايشة له وانغماراً في لجه وتطلعاً إلى أغواره.. إنها عملية صعبة ومركبة وجاهدة ومجهدة.. وهي أولاً وآخراً تتعلق بنوع المرسل والمرسل إليه والرسالة، وإذا كنا نشكو من قلة قراء الشعر والمهتمين بالاستماع إليه ونشكو كذلك من قلة مبيع كتبه فذلك لأن الشاعر سارق النار، والنار لا تزال لغزاً في الاختراع والابتداع وماتني أيضاً سر الأسرار، وهنا نتذكر دور الثقافة فإذا كان قارئ الشعر مثقفاً زاد به معرفة ونوراً واستشرافاً روحياً، أما إذا كان ضحل الثقافة فإن الشعر يتحول على يديه مرأى للسطح وبعداً عن الأعماق، واصطياداً للصدف وإهمالاً للؤلؤ.. وهكذا فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وعلى قدر أهمية الشعر، تنشأ أهمية قارئه ومتذوقه ومتعشقه والمولع باكتشاف قاراته وعبور أرخبيلاته.‏

تشهد الساحة الثقافية العربية حركة ترجمة ناشطة في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية، وعلى الصعيد الأدبي يلحظ المتتبع فيضاً من ترجمات الشعر العالمي إلى اللغة العربية لشعراء من مدارس أدبية مختلفة واتجاهات متباينة يقوم بها على الأغلب شعراء عرب لهم تجربتهم الشعرية المتميزة وغناهم اللغوي المزدوج.‏

لقد قيل: الترجمة هي الخيانة للأصل، وفي رأي جمهرة كبيرة من الأدباء والنقاد أن هذا القول بعيد عن الصحة، مجانب للصواب في كثير من جوانبه، لأنه لولا الترجمة لما استطاعت الثقافة العربية أن تتفاعل بسواها من الثقافات التي عرفت وانتشرت وسادت، فالترجمة ضرورية لكونها عملية تفاعل بين ثقافات وفنون أمم متعددة ولكي تكون الترجمة وافية بأغراضها، مستوفية عناصر نجاحها فإن على المترجم أن يكون محيطاً باللغتين المترجم عنها والمترجم إليها، وأن يكون الشاعر المترجم للشعر قادراً على مؤالفة مناخ الشاعر المترجم له لكي يدرك أجواء مفرداته وصوره ومعاني تعابيره، وما تندرج فيه من بنى لغوية جمالية، فإن استطاع التدرع بهذه العوامل جاءت الترجمة أقرب إلى النص الأصلي، إن لم تكن النص بذاته، ولكن بلغة أخرى، لأن لكل لغة ميزاتها الخاصة وعبقريتها الذاتية، وهي عند النقل إلى لغة ثانية لا بد لها أن تفقد بعض ملامحها، لكن الشاعر الإبداعي يستطيع أن يقارب بين النصين حتى تكاد تنتهي المسافة بينهما.‏

هذا في معنى أمانة الترجمة الشعرية، أما تأثير الترجمة على الشعر العربي الحديث فأمر بالغ الخطورة، فهناك عدد معروف من الشعراء المولعين بمد اليد على نتاج غيرهم يستمرؤونه بمعنى -رفع الكلفة- وتنتفي عندئذ الحدود بين شعرهم وما يترجمون، وضرب الأمثلة في هذه الناحية سهل، يكفي أن نذكر أدونيس وسعدي يوسف وكمال أبو ديب وغيرهم، وتأثير ما ترجموه من شعر لشعراء عالميين كبار على تجاربهم الشعرية، موضوعات وصور وتراكيب شعرية ومغامرات لغوية، لكن من ناحية أخرى ثمة تأثير إيجابي آخر يتوافر من ترجمة الشعر الكوني إلى العربية، كأن يتطعم شعرنا الحديث بأنساغ جديدة، متسربة من الشعر الأجنبي إلى لغتنا ما يتيح المجال أمام الشاعر العربي للوقوف على أجواء ومناخات لا عهد له بها يجدد بوساطة تأثره بدخائلها مسيرته الشعرية ويغنيها ويفتح آفاقها وعوالمها على أمداء كانت مغلقة.‏

من ناحية ثالثة، فإن من طبيعة الشاعر الإبداعي دائماً أن يستوحي تجربته الشعرية من معينين أساسيين: ما يغترف من واقعه، وما يطالع.. وإذا حصل الاثنان معاً استطاع أن يجنب شعره عملية سوء الهضم، فيجيء شعره عندئذ جديداً متجدداً حافلاً بنبضات الحياة التي حوله وما يسترفده من وقائع أخرى، إن الملاحظ أن ثمة ولوعاً شديداً لدى العديد من الشعراء العرب في ترجمة اتجاهات شعرية أجنبية لا لمعرفتها فحسب، وإنما للسطو عليها أحيانا وللظهور في مظهر مكتشفي البدع أحياناً أخرى.. جميل أن يتعلم الشاعر.. بل عليه أن يتعلم، أما أن يكون مندرجاً في صياغة البدع، فتلك شكلانية غير موفية بأغراض الشعر، ويكون من نتائجها أن هذا الفن الممتاز يصبح غريباً عن الإنسان والواقع والأمثلة على مثل هذه الحالة أكثر من أن تحصى بين شعراء الوطن العربي المهجوسين بترجمة الشعر عن لغات أجنبية إلى العربية، ولاداعي لذكر الأسماء.‏

يقول الفرنسيون (الشعر الشفوي نصفه قائم على فن الإلقاء) وهذه موهبة أو فطرة لا تتحصل إلا لدى القلة من الشعراء من العالم، فشوقي على رأس مدرسته الشعرية كان يخفق في إلقاء قصائده فيعطيها لغيره ليقوم بإلقائها وحجازي على رأس اتجاهه الشعري علم من أعلام الإلقاء الفني الجذاب والمعبر والمشهور في الأوساط الأدبية، أيفتشنكو في الشعر السوفييتي بإلقائه التشكيلي لشعره بين ارتفاع في الصوت وتهدج ورقص على المسرح وضرب بالقدمين على خشبة وبكاء وحركات تمثيلية بهلوانية، يشبه في الشعر العربي الشاعر العراقي مظفر النواب بإلقائه الرمزي الإيحائي المشحون بطاقات مسرحية إنسانية تحيل القصيدة الملقاة على المنصة إلى حالة مشهدية أسطورية تخلب الألباب والأسماع بما فيها من طقوس السحر والنوم والصمت الطويل والهرج والمرج والغناء والحداء والسباب والدموع والتنهدات والتقدم والتراجع الجسدي أمام حشد المستمعين.‏

وثمة ساعات مأزومة تحبط الشاعر في إلقاء شعره، فلقد سئل العقاد مرة عن أحرج ساعة للشاعر في موقف خاص فأجاب بقوله: أن ينشد حبيبته شعراً فلا يجدها فاهمة لما يقول.. إنه يجد تلك الساعة أليمة ومن حسن الحظ لا يحس بها أحد سواه، وسئل كذلك عن أحرج ساعة للشاعر في موقف عام فأردف يقول: أن يقف الشاعر في حفل جماهيري، ينشد الحضور قصيدة مطولة في أكثر من مئة بيت، فإذا ظروف قاهرة تضطره إلى الاجتزاء وتخير عشرين بيتاً مثلاً, فلا يدري أي الأبيات ينشد وأيها يترك وكلها حبيبة إلى نفسه عزيزة عليه، وهنا تبدو عليه أمارات الحرج والضيق لفرط ما ينوء به من غيظ.‏

ذكرتني إجابة العقاد هذه، بغض النظر عن حكمنا على شاعريته، بموقف مشابه للشاعر بابلو نيرودا في مطلع حياته الشعرية، وكان لا يزال يعيش حياة الطلبة، يروي بابلو الحادثة التالية عنه وعن صديق له شاعر ناشىء مثله فيقول: ذهبنا ذات مرة ننشد أشعارنا في مدينة (سان برناردو) القريبة من عاصمة التشيلي، قبل أن نصعد المنصة لإنشاد شعرنا، كانوا قد احتفلوا باختيار ملكة الزهور. كانت الملكة بثيابها البيضاء وشعرها الأشقر حاضرة، كان وجهاء المدينة قد ألقوا خطباً رنانة، والفرق الموسيقية قد عزفت ألحاناً نشازاً، عندما صعدت وبدأت بإنشاد شعري في صوت متأوه، لم يكن في العالم كله صوت أكثر منه تأوهاً، تبدل كل شيء: الجمهور يعطس، ينكت.. يتلهى بشعري الكئيب الحزين، حين رأيت هذه الاستجابة المخزية من قبل هؤلاء الهمج، أسرعت في القراءة وأوجزت، فنزلت تاركاً المنصة لزميلي (روميو مورغا)، إن ما حدث جدير بالتخليد والذكر، فما أن صعد (دون كيخوته) هذا الفارع الطول بثيابه الغامقة الرثة المضحكة وأخذ ينشد بصوت أكثر من صوتي أنيناً وتأوهاً حتى بدا الجمهور وقد فقد قدرته على ضبط النفس وكظم الغيظ بالصراخ والهتاف: يا شعراء الجوع، لا تفسدوا علينا الاحتفال.‏

على العكس تماماً من هذا الموقف المؤسي، كان الشاعر شوقي بغدادي في مطلع شبابه وعنفوان حضوره الجماهيري يلقي شعره النضالي الحماسي الحافل بالنبرة العاطفية الخطابية الموقعة والمؤثرة في تظاهرات الخمسينيات الدمشقية الحاشدة ضد الاستعمار والاستغلال وأعوانهما، ولفرط تجاوب الجمهور مع إلقائه المتميز وقدرته على شد الانتباه بصوته الجهوري وصفاء مخارج حروفه الضاغطة قصداً على بعض الكلمات تأكيداً على أهميتها وثوريتها، كانوا يحملونه على الأكتاف بعد انتهاء إلقائه تحية له وتقديراً وإعجاباً بقصيده وقريضه، مثله في ذلك مثل الشاعر الراحل محمد الحريري ولا عجب في هذا فنحن من أعرق الأمم، إن لم نكن أعرقها، في فن الشعر الضارب قدماً في جذورنا القومية وشخصيتنا الثقافية ووجداننا الجمعي العام.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية