موسم الهجرة إلى الشمال... رواية البؤس العربي بامتياز
فضاءات ثقافية الثلاثاء 27-12-2011 نشر الطيب صالح العديد من الروايات منها: عرس الزين، ومريود، ونخلة على الجدول، وله مجموعة قصصية بعنوان «ادومة ود. حامد»، وهو في كل أعماله القصصية مسكون بالهم الاجتماعي للمجتمع الذي ينتمي إليه، وقد ظهر ذلك جلياً في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال».
تشكل رواية الطيب صالح هذه عملاً فنياً بالغ الجودة، إذ تشكل واحدة من أهم الروايات العربية، وجعلت صاحبها يتبوأ مقعده الوثير من الفن القصصي العربي، وتمتاز هذه الرواية بتجسيد ثنائية التقاليد الشرقية والغربية، واعتماد صورة البطل الإشكالي الملتبس على خلاف صورة البطل الروائي الواضحة سلباً أو إيجاباً الشائعة في أعمال روائية كثيرة قبله.وإذا كان النقاد يعرفون الرواية بأنها ترجمة أو تصوير لواقع الحياة فإن «موسم الهجرة إلى الشمال» هي تصوير لواقع اجتماعي عربي عام، وعلى الرغم من أن أحداث الرواية تدور في الريف السوداني إلا أنها تسلط الضوء على أساسيات التركيبة الاجتماعية العربية، وترسم صورة للإنسان العربي في واقعه المعيش، صورته الاجتماعية بحلوها ومرها، وزيفها وحقيقتها، إنها رواية البؤس العربي بامتياز.ومن أهم القضايا التي تعرضها رواية الطيب صالح هذه السلوك الفردي للإنسان العربي، ومدى تناغمه مع السلوك الاجتماعي مما يحدد سلوك هذا الفرد، إذ يظهر الإنسان العربي ذا صورتين: واحدة تعيش في ذاكرة مصطفى سعيد الذي لا يحب أن يطّلع عليها أحد، تلك الصورة التي عاش أحداثها الدراماتيكية في الغرب، والثانية حياته الهادئة في إحدى القرى النائية في الريف السوداني، ويظهر فيها شخصية اجتماعية إيجابية، ما جعله يحوز ثقة الجميع في القرية، ولو عرفوا ماضيه ما عاملوه كما عاملوه فيه، على عكس تلك الصورة التي عاش تفاصيلها في أصقاع الغرب، غازياً للغرب، منتقماً من استعماريتهم، ولكن على طريقته هو، في استخدام سلاح التضليل ليوقع النساء في شرك نهمه الجنسي. ففي واقع الحال ترسم الرواية حياتين مختلفتين جداً لبطل الرواية الإشكالي مصطفى سعيد تظهر في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» سمات المجتمع العربي، تلك السمات الموروثة، من قيم اجتماعية ودينية وسياسية، وقد يكون العيب في هذه الموروثات، هو تلقيها بشكل خاطئ، وممارستها كسلوك فردي في ظروف ما، لتصبح سلوكاً اجتماعياً متوافقاً على التزامه من قبل الجماعة، حتى أصبحت قانوناً اجتماعياً مستقراً في المخيلة الجمعية لمجتمع ما، ولعل أهم سمة اجتماعية تبدو في الرواية ما يطلق عليه في العلوم الاجتماعية المجتمع الأبوي الرجولي، وإن شئت فقل المجتمع الذكوري، الذي يعلي من شأن الرجل، ويجعل له الحق في أخذ زمام الأمور والمبادرة، وما على المرأة إلا الطاعة والتنفيذ، وليس لها حق إبداء الرأي أو الاعتراض، حتى ولو كان الأمر يخص حياتها، وتبقى مسألة مهمة بحاجة إلى وقفة ولو بسيطة، أخذت من الرواية مساحة لا بأس بها، وهي سلوك المرأة في الخلاص الفردي من الظلم الاجتماعي الذي وقع عليها؛ فهذه حسنة بنت محمود تهدد بقتل ود الريس وقتل نفسها، إن أجبروها وتزوجته، وقد تم ذلك فعلا ًفي الرواية، فتجد أن المجتمع لا يبرئها من هذه الفعلة، ويعد ذلك الأمر حدثاً غريباً وكأن قتل الزوج أمر لا يتصور حدوثه في هكذا مجتمع، لذا يستفظع فعلها،
في رواية الطيب صالح هذه تصوير لعله دقيق لمجتمع كانت هذه صورته قبل أربعين سنة، عندما كتب الطيب صالح هذه الرواية، وقد كانت مجموعة من العوامل ترسخ مثل هذه النظرة في المجتمع، لعل الجهل هو أكثرها أهمية، فهل يا ترى تغيرت صورة المجتمع العربي اليوم، ونحن نصارع قرناً مليئاً بالتشوهات السياسية والاجتماعية، والردة الفكرية عن كل ما هو ثابت وجميل؟ قد تكون هذه الفترة أشد بؤسا من واقع الخمسينيات، فالجهل والتجهيل قد استفحل، والمرض قد عم، والقيم الاستهلاكية الأنثوية في تفشٍ؟ وكل حركات الإصلاح قد تراجعت لصالح فئة تمردت من أجل اكتساب منافع فردية مشوهة.
|