تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بين الدمع والصمت

آراء
الأثنين 17/11/2008
إلياس الفاضل

في السبعينيات كنت أعد برنامجاً للتلفزيون العربي السوري تحت عنوان (سهرة مع فنان) اجريت من خلاله لقاءات مع مشاهير النجوم العرب من بينهم يوسف وهبي, تحية كاربوكا,

جلال الشرقاوي, سهير البابلي, وسميحة أيوب, ماري منيب, شريفة فاضل, محمد الموجي, فيلمون وهبي, نصري شمس الدين سعاد هاشم, منى واصف, صلاح ذو الفقار, وغيرهم كثيرون وكان الهدف من البرنامج المذكور مناقشة مسائل السينما والمسرح والتلفزيون من جهة ومحاولة صنع أرشيف لهؤلاء الفنانين الذين لعبوا ادواراً في الحياة الفنية العربية.‏

وذات يوم وصل دمشق الفنان الكوميدي الشهير اسماعيل ياسين على رأس فرقة مسرحية ليقدم للجمهور السوري عدداً من أعماله المسرحية وكانت برفقته الفنانة الذائعة الصيت زينات صدقي وكالعادة اتصلت باسماعيل واتفقنا على الحوار مع البرنامج وكذلك الحال في زينات صدقي.‏

لاأريد أن أتحدث الآن عن هذا الفنان الكبير الذي يحمل في ذاكرته تاريخاً طويلاً يرجع الى الثلاثينيات من القرن الماضي فاسماعيل ياسين كان لفترة طويلة (دينامو) السينما المصرية, حيث من النادر أن يخلو فيلم من الأفلام التي انتجت في زمانه من وجوده, فقد كان مفتاح المنتجين لجذب الجمهور إلى شباك التذاكر وعمل في المسرح مع علي الكسار ونجيب الريحاني ثم أسس فرقته المسرحية الخاصة به وكان من رواد (المنولوج) في العالم العربي.‏

لقد لمع نجم اسماعيل ياسين وبلغ ذروة الشهرة هذه حقيقة لاجدال فيها, فهو من القلائل في العالم الذي كان اسمه يوضع عنواناً للفيلم ولكن الحقيقة أيضاً أن هذا النجم بدأ يخبو, ويخفت ضوءه, فأهمله المنتجون ونسيه المخرجون واعرض عنه الجمهور لأن أسلوبه الفني لم يعد يستهوي الاجيال الجديدة فحمل فرقته وقدم إلى سورية لعله يجد بعض العزاء بإقبال الجمهور السوري على مسرحه, ولاسيما انه سبق له أن زار سورية ممثلاً مسرحياً مع على الكسار عام 1936 وعمل على مسارح دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية, ولكن للأسف الشديد سقطت المسرحية سقوطاً ذريعاً وفشلت فشلاً واضحاً فقد كان الذين حضروا إلى المسرح يعدون على اصابع اليدين ,اضافة إلى أن النقاد هاجموا المسرحية هجوماً لاذعاً, وتناولوا شخصية اسماعيل ياسين واسلوبه بالنقد والتجريح.‏

لكن كل هذا لم يمنع أو يخل باتفاقنا, فحضر اسماعيل ياسين في الموعد المحدد لتسجيل البرنامج وإن أنسى لا أنسى وقد خلونا معاً في غرفتي بالتلفزيون لتركيز الاسئلة والاجوبة واختيار المشاهد من الأفلام, ذلك المشهد الذي سجله القدر امامي بعفوية وصدق, حيث فوجئت بالفنان الكبير الهادئ الرصين المتزن يبكي بحرقة ومرارة كطفل فقد لعبته, حينما سألته عن اسباب فشل المسرحية حينذاك,أحسست أن قلبي قد قفز من صدري واستوطن بين حجري الرحى وأيقنت ان هذا الفنان الكبير يبكي مجده الفني الذي انهار تماماً كما يبكي النسر الذي يهوي من القمة ويسقط أسير الصياد.‏

أما زينات صدقي فقد كنا نمني انفسنا بتسجيل سهرة معها لا أجمل ولا أحلى, سهرة شائقة وممتعة تكون شبيهة بالسهرة التي سجلناها للممثلة الكبيرة ماري منيب التي ملأت الشاشة الصغيرة بمرحها وذكرياتها ومواقفها الطريفة خلال مسيرتها الفنية الحافلة, ذلك أن زينات صدقي عرفت على الشاشة بحيويتها المتدفقة وحركاتها المرحة وعصبيتها ونزقها ولسانها السليط الرداح, كل هذا كون لهاجمهوراً عريضا من المعجبين والمعجبات ,اضافة إلى كونها ممثلة مسرحية عملت إلى جانب الكسار ونجيب الريحاني.‏

ولكي نغني البرنامج أعلنا لأول مرة أننا نرحب بأي سؤال يطرحه من يشاء من الجمهور على الممثلة زينات صدقي, وبالفعل تلقينا الكثير من الأسئلة وبعد غربلتها اخترنا سبعة أسئلة, اضافة إلى ما اعددناه نحن.‏

وبعد انتهاء التسجيل ذهبت إلى غرفة المراقبة لمشاهدة الشريط ولشدة ماكانت دهشتي كبيرة حينما رأيت زينات صدقي, وهي جالسة أمام الكاميرا مقطبة الجبين, عابسة الوجه, حزينة , كئيبة, بل قل إن حزن العالم كله يسكن في عينيها.‏

إضافة إلى أن لسانها يتحرك كأنه مخدر, فهي تجيب على السؤال بكلمة أو كلمتين دون الوصول إلى الهدف, فقد عجزت المذيعة عن تحريكها أو استفزازها أو الحصول منها على رأي, أو موقف , أو ذكريات.‏

لقد كانت زينات صدقي وهي الممثلة القديرة أمام الكاميرا وكأنها تقف أمامها لأول مرة, فجاء الحوار بارداً ميتاً لا أثر فيه للحياة فأصبت بالإحباط وقررت عدم بث الشريط.‏

لقد خسرنا سهرة كنا نتوقع لها أن تكون من أنجح السهرات التي قدمناها للجمهور, ولكن ماحيلتنا وماذا نستطيع أن نفعل وقد أقر الزملاء قراري حينما اجتمعنا للتداول? لقد منعنا الشريط لكي لانسيء إلى الفنانة القديرة أمام جمهورها ومحبيها ولكن لم يستطع أي منا أن يدرك السر الذي يكمن في أعماق هذه الفنانة والذي جعلها تبقى صامتة صمت أبي الهول وتمتنع عن الكلام.‏

وهل السر حقاً يرجع إلى فشل قصة حبها مع نجيب الريحاني ما أثر على نفسيتها فدفعها ذلك إلى اختيار العزلة وقلة الكلام خارج حدود السينما والمسرح? الله وحده يعلم‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية