بداية يحدثنا المتخصصون أنه نتيجة لكثرة عمل اليهود في مجالات الاستخبارات على مدى العصور وتنوع الأماكن ظل هاجس التجسس على الغير سمة رئيسية من مكونات الشخصية اليهودية، فلقد خلص الكاتب الانجليزي (ريتشارد ديكون) في كتابه عن جهاز الاستخبارات الاسرائيلي إلى القول إن بعض صفات عملاء اليهود المستخدمين في نطاق الجاسوسية العالمية هي صفات عامة تدخل في إطار السمات الطبيعية لليهود في حقل الجاسوسية والتي من أبرزها البرغماتية والقسوة ودقة الملاحظة والاعتناء بالتفاصيل الصغيرة.
ويعتقد (ديكون) أن هذه الصفات وجدت بكثرة بعد ذلك في صفوف الهاغاناه والمنظمات الصهيونية الأخرى قبيل عام 1948، حيث كان معظم مؤسسي اسرائيل أعضاء في جمعيات سرية أو منظمات من هذا النوع قبل هجرتهم إلى فلسطين، وأنهم ساهموا في مجال التجسس لمصلحة دولهم أو دول أخرى - كبريطانيا أو الولايات المتحدة - رغبة منهم في قيام الأشخاص ذوي النفوذ في تلك الدول بتسهيل أمر إنشاء دولتهم الصهيونية.
فحاييم وايزمان مثلاً كان على علاقة وثيقة بوليم ستيفنون الذي أصبح الشخص الأول في المخابرات البريطانية العاملة في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية.
وكانت الأجهزة السرية التابعة لمنظمة الهاغاناه ومنظمة الأرغون زئيفي لومي (الأرغون) ومنظمة لوهامي حيروت اسرائيل، أحد أبرز أذرع المخابرات الاسرائيلية ولقد أصبحت هذه التنظيمات عند حلها على يد بن غوريون بعد نجاح العملية الاستيطانية الصهيونية في فلسطين «نواة لجهاز الاستخبارات الاسرائيلي الحالي» وكانت عناصر هذه الأجهزة تتكون من الصهاينة المتحمسين والماهرين في الأعمال الاستخباراتية من جهة، وأعمال التخريب والارهاب من جهة أخرى، وكانت على اتصال وثيق بعملائها في الخارج وباليهود المتعاونين معها من مختلف الجنسيات، وخاصة مع انجلترا وفرنسا وأمريكا.
بدأ الموساد يأخذ شكله التنظيمي كجهاز مصغر ومتقدم للاستخبارات عام 1942، حيث تم تسجيل 40عضواً في دورات تدريبية خاصة بالمسائل الاستخبارية، وذلك في مدرسة للتدريب الزراعي في مكيفاه بفلسطين..وشملت الدورة إلى جانب أمور أخرى - الشفرة والرمي وتدبير طرق وسائل الهرب.
وفي العودة للتاريخ نجد أنه في عام 1951 أصدر بن غوريون التشكيل الثاني للجهاز إثر إقالة ايسير بنيري حيث قرر إعادة تنظيم البنية الأساسية لأجهزة المخابرات والأمن الاسرائيلية تنظيماً شاملاً، بعد أن دق ناقوس الخطر بسبب جو عدم الثقة المنتشر بين الأجهزة المتعددة وعمل بن غوريون على دمج الدائرة السياسية التابعة لوزارة الخارجية وإنشاء جهاز رسمي متخصص بالمؤسسة المركزية للاستخبارات (الموساد) بشكله الحديث وعهد برئاسته إلى راؤبين شلواح واسندت إدارة الاستخبارات العسكرية إلى حاييم هيرتزوج واستمر ايسير هارئيل في منصبه رئيساً للأمن الداخلي (الشين بيت).
وتعددت دوائر الاستخبارات بعد ذلك وشكت من عدم الاستقرار واحتدت المنافسة فيما بينها حتى عام 1953. حيث صدر أول تنظيم رسمي للاستخبارات الاسرائيلية بناء على قرار من بن غوريون يقضي بإعادة تنظيم الجهاز إضافة إلى إنشاء لجنة تنسيق تضم جميع وحداته..ونبع ذلك من رغبة بن غوريون في المحافظة على التنسيق والوحدة بين وحدات الجهاز المختلفة، فتم تعيين ايسير هارئيل (ايسير الصغير) رئيساً للموساد، مع احتفاظه برئاسة الشين بيت وتجمع لجنة التنسيق (اللجنة العليا لرؤساء الاستخبارات) خمس إدارات تمثل الوحدات المختلفة لجهاز الاستخبارات الاسرائيلي والتي مازالت مستمرة حتى اليوم، وهذه الوحدات هي:
1- المؤسسة المركزية للاستخبارات والأمن (الموساد) وتقرر أن تكون المصدر الرئيسي لجمع المعلومات في الخارج وأن تكون خاضعة مباشرة لرئيس الحكومة ووزير الحرب.
2- المؤسسة العسكرية (أمان)، وتسمى دائرة الاستخبارات في القيادة العامة وتكون خاضعة لرئيس الأركان ووزير الدفاع ويتركز عملها في عدة مجالات أهمها تحضير الدراسات والتقديرات في المجال العسكري والاستراتيجي والاستخباري وعهد إلى مديرية الاستخبارات القيام بجمع المعلومات عن التكوين العسكري (للعدو العربي) وجمع المطبوعات التي تتطرق إلى موضوعات عسكرية.
3- خدمات الأمن العامة لوزارة الداخلية (الشين بيت): ومهمتها الاشراف على الأمن الداخلي في (الدولة) والبحث عن الحركات السرية (حركات المقاومة الفلسطينية المجاهدة بالأساس!!) والقضاء عليها والقيام بمكافحة عمليات التجسس المحتملة، كما أنيطت بها مهمة جمع النشاطات المعادية وتقرر أن تكون تبعيتها المباشرة لوزير الحرب.
4- فرع المهمات الخاصة في الشرطة: وقد شكلت لغرض اتمام الجانب العملي في نشاطات خدمات الأمن العام ومعظم واجبات هذا الفرع هي تقديم المساعدة إلى خدمات الأمن، وإبعاد الأجانب غير المرغوب بهم ومراقبة الأجانب الذين يزورون البلاد ويرتبط هذا الفرع بشرطة اسرائيل ويتبع المفتش العام ووزير الشرطة.
5- قسم الأبحاث في وزارة الخارجية: وعمله محصور في التجسس وجمع المعلومات الواردة وتحليلها، وخاصة التي ترد من البعثات الدبلوماسية في الخارج وموظفي وزارة الخارجية وهي تتبع وزارة الخارجية.
ويتراوح عدد العاملين في الموساد بين 5 آلاف إلى 10 آلاف شخص بينهم ضباط.. كما تعمل محطات الموساد بفلسطين والدول العربية والعالم في الشرق بشكل عام تحت ستار دبلوماسي داخل السفارات والقنصليات الاسرائيلية، ويأتي الكثير من الجواسيس الاسرائيليين من الأقطار العربية التي ولدوا فيها وهم كالعرب من حيث التقاليد ولغة الحوار.
ويعتمد الموساد على الجاليات والمنظمات اليهودية في الخارج لتجنيد العملاء والجواسيس لجمع المعلومات العامة, تلك هي الصورة العامة لجهاز الموت الاسرائيلي (الموساد) الذي يعمل في بلادنا تحت لافتات دبلوماسية أو اقتصادية أو إعلامية (المركز الأكاديمي الاسرائيلي) وهو جهاز لايؤمن بالصداقة والعلاقات الطبيعية تماماً مثل دولته، إنه فقط يؤمن بالعملاء، وفي هذا الزمن العربي وتحت وهم اسمه السلام - أضحى العملاء بالنسبة للموساد ليسوا فحسب عملاء التجسس المباشر، بل أولئك الذين يدعون للتطبيع والسلام مع عدو لايفتأ يذكرهم بعداوتهم كل صباح عبر الدم والذعر، ولكن مالايفهمه هؤلاء العملاء المباشرون أو غير المباشرين أن الموساد دولته هي أول من يتخلص منهم ويتنكر لهم عند أول محطة صدام قادمة، فالبرغماتية والقسوة، كما سبق أن أشرنا هي من السمات الطبيعية لهذ الكيان وأجهزته، وماأحوجنا إلى أن ندرك ذلك جيداً، اليوم وليس غداً.
كاتب ومحلل سياسي مصري