تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الإنسان الخراب...؟

آراء
الأثنين 25-5-2009م
حسين عبد الكريم

حبّه لـ غزالة الريحان جاء بين حدَّي الوعي والمصادفة الطيبة...

ولم يبتكر ويتفنن في هندسة هذا الحب وترميمه، كما هو مبتكر وحاذق وفنان في بناء البيوت وبسط نفوذ الطين على حيطانها، في القرية والمدينة..‏

حمدان قامته المربوعة تخبر عن المتانة والشدة، ويداه تنشران الدهشة والحياة في أي حائط، يريد رفعه أو ترميمه.. وعند مصافحته للأقرباء والجيران والأصدقاء تبدو قوة يديه.. ويشدهما على اليد المصافحة كمن يود القبض على حاجة أو تحية أو كلمات الأصابع...‏

بيت أهله في طرف القريةالشرقي، وبيت غزالة يقابله في الجهة الجنوبية. بين البيتين النهر وكلمات السفح و الوادي.. وأغنيات لا تنعس بين القرية والقرية والجار والجارة والهمة والحسن: عيناها تحتفيان بالحكي الجميل والنظرات، وهو بسيط وحنون..‏

ويهتدي قلبه إلى حيث نسيم الحبيبة وصوتها، ويدعم وجوده بالبناء والحيطان ، التي تشهد له بالجدارة وموهبة الإنشاء : حجارة وطين وعيدان، وحين يحضر ( المعلم حمدان) تتكامل العلاقة بين الأشياء، حتى يتعالى البيت. وأنشأ داراً له قرب الأهل وأوسع فسحته وعززها بالشجرات والمزروعات ، حتى تميز عن البيوت التالية...‏

لا يخطىء في وضع حجر فوق حجر، وحين يتعب ويأوى إلى نعاسه يعرف كيف يرتّب خيالات غزالة وملامحها ونظراتها المترفة... وينبىء نفسه:‏

عيناها تقولان: أنت الحبيب يا حمدان.‏

صباحاً، قبل انطفاء صياح الديوك سقى الشجرات، واهتدى إلى عناقيد العرائش، وقطف منها ما يفرح العين ويسر الذوق...‏

حمل العناقيد إلى صديقه صالح في المدينة...‏

تباركت يدك الزراعة، وتباركت الأرض التي تعطي هذه العناقيد...‏

انصرف إلى تطيين الجدران، واكتفى بمسرة داخلية ، قطفها عن أغصان الحس وكلمات الصديق..‏

صالح قريب أم غزالة، لكنه لا يعلم عن حبه لها أية معلومات، ولا يعنيه أن يعلم..‏

كل همه البيع في الدكان والنجاح في ترميم عمره مع الأولاد..‏

حمدان لا يروق له أن يكون الأولاد طماعين ، جائعين، و يقلقهم أن يملكوا ولا شيء بعد ذلك أو قبله..‏

بيت صالح قدم أولاداً يميلون إلى الطمع والجوع، وهذا ما أوجع حمدان وآلمه..‏

كبر الأولاد، وتنفسوا الهواء الذي لا يعرف أهو فاسد أو نقي؟؟! مات الأب صالح ، ولم يحضر ولده الكبير صاحب النفوذ والذي قال عنه حمدان: ولد الخراب والعيب...‏

ودع حمدان الصديق بأسى وحزن،ولم يشأ إقفال باب هذا الوداع الأخير دون أن يقول أو يعمل أو يهدي تحية للصديق الذي لم يترك إلا الخراب...‏

قال للزوجة الغزالة:‏

- لو كان أولاد صالح صالحين لبنيت لهم بيتاً..‏

- بعد رحيل الأب يمكنك أن تبني بيتاً للغياب.‏

- أنت ماذا تقولين يا غزالة: هل للغياب بيوت؟‏

- أعظم وأمتن البيوت هي بيوت الغياب والغائبين..‏

-( تتفلسفين) يا ست الحب والدلال..‏

ينهي الحرف الأخير، وعيناه تراقبان وجداً طرياً بانت ملامحه عند منحدر الخدين والأنف..‏

ويقول: أنا وأنت بنينا بيتاً للحب، هل سيرثه أولاد محبون، أم نبتلى بأولاد للخراب والهلاك والأنقاض، كأولاد صديقنا والأقرباء والجيران؟‏

- إذا حملوا من روحك وعمرك ما يشبهك سيكونون أبناء حياة وبناء... و..‏

لم تكمل حروف العطف وما يأتي بعدها، وعاينت المدى المترامي والسفح المقابل وبيت أهلها، الذي باعه أخوها...‏

رمت كلمات جديدة إلى جوار حرقة الزوج الحبيب صاحب همة العمران والحيطان المتينة:‏

أخي صديق ولد صالح وجائع مثله، وكأنه مولود من رحم الخراب، وحين أصغي إلى حديثه ، أكاد أرى أن الحياة مجردة من فعل الخير والنهوض..‏

دائماً يتحدث عن زوجته الجائعة والطامحة إلى كل ما ليس عندها أولها، وهو ليس أكثر من خادم طمعه وحاجات زوجته الرديئة مثل خرقة عند حافة ريح... من أهدى أخي كل هذه التفاهات والبشاعات، حتى غدونا نكره أن نلاقيه أو نسمع صوته وأحاديثه ( الخربانة) مثل قميص ممزق؟!‏

عاد الرجل حمدان إلى رشد اللحظات الطيبة:‏

- لا تكوني حزينة إلى الحد الذي يعمي بصيرتك عن الأمل والبهجة ورقة العيش والوجود..‏

- يكفيني أنك معي وأنك تبني الجدران وترفعها، وأنك تزرع الشجرات والمزروعات وأنك ابن الحياة والحب.. يكفيني أننا نبني بيتنا بالسعادة ،التي لا تموت..‏

بيت حمدان وأرضه وشجراته وعمره ومسراته ووجده البري تجاه بريّة عشق وتوق ورغبات غير ضالة.. يعرف كيف يهتدي إلى وجده وصوت حنينه ولا يخبّىء عيباً واحداً أو خشية في نفسه، ومثله غزالته، التي قالت له وتقول: أنت قوي كالجبل وصاحب رقة كالنبع، وحنون كالظلال الخضراء التي أمام بيتنا.. قبل اكتمال ديباجة حبّنا بالزواج، كنت أرقب بيتك بعين الدهشة، ويوم دعتك أمي لبناء الحائط المهدود أشرق الوقت بمجيئك، وتمنيت بقاءك عندنا كنهار لا يغيب...‏

مقابل البيت صارت بيوت ضخمة:‏

هذا لولد صالح ، وآخر لشلاح العرجون، وثالث لقرقر، ورابع لعيروط، وخامس لبربر، وسادس وسابع و..و..لـ فلان وفلان..الخ‏

والمدينة تداخلت مع القرية والسهل مع الرابية... كأن الهداية ضاعت وسط الضلالات..‏

قال حمدان: هذه البيوت التي ترينها ليست كالبيوت التي أبنيها.. إنها تمثل الخراب والأنقاض، لأنها جاءت من الطمع والضلالات وتعاسات نفوس، لم تعرف عن الحياة أو الحب أية معلومات، ولم تسلك إلا سلوكاً واحداً هو الجوع الكبير والطمع الفتاك.. إنهم أولاد الهلاك...‏

بيوت لا تحتفظ بأي حب أو رائحة خير في زواياها وجدرانها...‏

تقدم العمر بـحمدان وتزاحمت الهموم والسنوات على عتبات عيش الزوجين، لكن همة البناء ظلت تتجدد، لأن حباً كبيراً ظل ينمو ويعلو وينهض وسط روح المسافات والدروب المؤدية إلى البيت العالي وصاحبه وصاحبته.‏

نبت الأولاد على حدود الأيام.. وظل حمدان وغزالته يدعو وتدعو: إن شاء القدر الطيب، الأولاد يصيرون للبناء والبقاء والحياة الكريمة.‏

ويوماً بعد يوم وحزناً بعد حزن وبيتاً متوحشاً بعد بيت متوحش تزيد الأنقاض، وترتفع قامات البؤس والتعاسات، ويتفرق الجيران والأقرباء، وتموت الصداقات، ويسأل الرجل نفسه:‏

من يحمي الإنسان من انهدامه وطمعه وتصدع عمره وحيطان حياته وصدقه؟‏

ويرتدُّ الصدى سؤالاً وحنيناً ونظرات متفائلة يروق له أن يوزعها في جهات العيش والسنوات والأرض والمدى والظلال.. ويتمنى أن تصير كل لفتة هداية ووجداً وحائطاً يسند النور وبهاء المحبين والجارات والجيران.. بنينا ونبني ولعل الأولاد يبنون..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية