ففي ريبورتاج مطول نشرته صحيفة واشنطن بوست منذ أيام تبين أن الشركة التابعة لـ» سي أي إيه» والمعروفة باسم «CRYPTO AG» باعت تكنولوجيا تشفير دبلوماسي إلى أكثر من نصف بلدان العالم خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي وفي الوقت ذاته أتاحت للمخابرات الأميركية التنصت على اتصالاتها، والشركة كانت عبارة عن شركة تكنولوجيا للتشفير الميكانيكي يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الثانية، وكانت مملوكة في سياق شراكة بين «سي أي إيه» ووكالة استخبارات ألمانية «BND» المعروفة بتطوير طرق التشفير المعقدة منذ العام 1970، بعدها بدأت الشركة ببيع الحكومات أنظمة تمتلك هي مفاتيحها ما يتيح للمخابرات الأميركية والألمانية الدخول إلى هذه الأنظمة، وبحسب تقرير واشنطن بوست فإن الشركة السويسرية ربحت ملايين الدولارات ببيعها الأجهزة إلى أكثر من 120 دولة بعد بداية القرن الحادي والعشرين.
من زبائن الشركة إيران وبعض دول أميركا اللاتينية، ومنافسون نوويون مثل الهند وباكستان حتى الفاتيكان، ومن البلدان التي استخدمت تقنيات الشركة للاتصالات الحساسة كانت اليابان، المكسيك، مصر، كوريا الجنوبية، إيران، السعودية، إيطاليا، الأرجنتين، أندونيسيا وليبيا، ومن بين حالات التجسس التي نشرتها الصحيفة اتصالات الرئيس أنور السادات خلال مفاوضات كامب ديفيد عام 1978، أيضاً الاتصالات الدبلوماسية بين إيران والجزائر خلال أزمة الرهائن الأميركيين عامي 1979 - 1980، وقد تقاسمت الـ «سي أي إيه» مع بريطانيا تشفير الاتصالات الصادرة من الأرجنتين خلال حرب المالوين عام 1982 وقد جاء في خلاصة التقرير بأنه: «انقلاب القرن في مجال الاستخبارات، حيث كانت هذه الحكومات الأجنبية تدفع بسخاء للولايات المتحدة ولألمانيا الغربية لتحظى بامتياز قراءة اتصالاتها الأكثر سرية».
ويضيف ريبورتاج واشنطن بوست أن ملفات «سي أي إيه» أظهرت وجود ثلاث حكومات على الأقل كانت على علم بالعملية - سويسرا، المملكة المتحدة -إضافة إلى «إسرائيل»، وإنها تلقت معلومات من الولايات المتحدة أو من ألمانيا، ففي أقوى عمليات تجسس لشركة كريبتو أجي في أعوام الثمانينات كانت أنظمة الشركة مسؤولة عن 40% من البرقيات الدبلوماسية في العالم لحكومات كانت تظن أن اتصالاتها محمية بينما هي خاضعة لتنصت «CIA «و « BND» التي كانت تجمعها وتشفر محتواها، لكن من بين الحكومات التي لم تشتر نظام كريبتو كان الاتحاد السوفيتي والصين لأنه وبحسب واشنطن بوست كان لديهما شكوك حول علاقة الشركة مع استخبارات الغرب التي كانت ترعاها في كل معرض.
في الواقع أن تكشف عملية تعاون المخابرات الأميركية مع شركائها الإمبرياليين في عملية تجسس على الاتصالات لحكومات العالم كله أمر مهم بالرغم من أنه ليس مفاجئاً، لكنه يبرهن بطريقة ملموسة على الصفة الإجرامية للإمبريالية الأميركية وعلى سطوتها ونذالتها الفاضحة، كما أن هذا الإفشاء يثبت أيضاً أن حكومة واشنطن سواء أكانت ديمقراطية أم جمهورية فهي دوماً أول من يتدخل في شؤون الدول الأخرى على مدى عقود خمسة بانتهاك فاضح للقانون الدولي، كما أن هذا الكشف يضاف أيضاً إلى تاريخ التجسس الأميركي الطويل على الحلفاء والأعداء في الشؤون العالمية، ومزيد من عمليات التجسس تم الكشف عنها ونشرتها وكيليكس أيضاً، وفي تسريبات إدوارد سنودن الذي سلم إلى مختصي الريبورتاج في صحيفة الغارديان وواشنطن بوست كماً هائلاً من الوثائق السرية للاستخبارات الأميركية عام 2013.
وفي العام 2015 في ظل إدارة أوباما كشفت ويكيليس أن» NSA» تنصتت على اتصالات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منذ العام 2009، وقد دلت معطيات ويكيليس أن الولايات المتحدة تجسست على المستشارية الألمانية خلال عقود مضت منذ عهد هيلموت كول (1982 - 1998)، وبالطريقة ذاتها تجسست على الاتصالات الهاتفية لرؤساء المكسيك والبرازيل.
إن تسلل الولايات المتحدة دون رادع إلى المعلومات المرقمة عبر أنظمة موجودة في الأسواق يعلل لنا الحملة الحالية لإدارة ترامب الهادفة إلى إجبار شركات التكنولوجيا على إبطال التشفير من أوله إلى آخره على «سمارت فون» وتطبيقات «تيكستوس» والاشتراط على شركات آبل وغوغل وفيسبوك بقوة الأمر الأميركي الدخول إلى منتجاتهم عبر باب سري يهدف في جزء منه إلى تعزيز الرقابة الحكومية على الاتصالات الخاصة للحكومات والشركات المنافسة.
إن العمل والتحرك ضد عمليات التجسس غير الشرعية للإدارة الأميركية واستخباراتها ضد دول العالم هو مسألة دفاع عن الحقوق الديمقراطية الأساسية لجميع الناس، وحتى الآن لم نسمع أي تعليق من مرشحي الحزب الديمقراطي للرئاسة على ما كشفته واشنطن بوست حول التجسس الأميركي باسم شركات وبنوك أميركية كبرى، فقط المرشحان من حزب المساواة الاشتراكي جوزيف كيشور ونوريسا سانتا كروز هما الوحيدان اللذان طلبا وبسرعة وضع حد للتدخل الأميركي بالتجسس على دول العالم.