لحماية كوبا من التهديدات آنذاك, فإن السبب في الأزمة الحالية وقرار الولايات المتحدة نشر صواريخها بمحاذاة الحدود الروسية بذريعة بناء منظومة للدفاع المضاد للصواريخ في عام 1962 وصلت الأزمة -كما هو معروف- إلى حافة الحرب النووية مشكلة خطراً جدياً على العالم أجمع, فإن السؤال الآن إلى أين ستصل الأزمة الحالية? لقد تمكن خروتشوف وكيندي في آخر لحظة في حينه من التوصل إلى اتفاق لكن هل سيتمكن البيت الأبيض والكريملين من إيجاد لغة مشتركة هذه المرة?
لم تسفر زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندا ليزا رايس ووزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس لموسكو ولقاءاتهما مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكذلك مباحثاتهما مع نظيريهما سيرغي لافروف وأنا تولي سيرديوكوف عن أي نقلة نوعية, كما لم تسفرعن تغيير موقفي الطرفين من مخططات واشنطن الرامية إلى نشر منظومتها الاستراتيجية للدفاع المضاد للصواريخ في أوروبا, بل الأكثر من ذلك, لايوجد خبير جدي توقع تحقيق أي نقلة حاسمة, فقد كان منذ البداية واضحاً أن إدارة بوش لن تتخلى, على الأرجح, عما تقوله حول حماية أراضي الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا من خطر هجوم صاروخي مزعوم قد ينجم عن البلدان التي وصفتها (بالمنبوذة) طبقاً لقاموس واشنطن, ويدرجه اسم إيران باستمرار في قائمة مثل هذه البلدان, ولم تعر الولايات المتحدة أي اهتمام لتأكيدات موسكو, على أن طهران لاتملك بل لايمكن أن تمتلك خلال السنوات العشرين أوالثلاثين القادمة صواريخ باليستية قادرة على بلوغ معظم بلدان القارة الأوروبية ناهيك عن أميركا الشمالية ولذا لاتنوي واشنطن العدول عن نشرعشرة صواريخ اعتراض مرابطة على الأرض (GBI) بالقرب من وارسو, ورادار للمسح الدائري عامل على الترددات العالية إلى جوار براغ بدلاً من استعمال محطة (داريال) للإنذار بالهجوم الصاروخي في غابلا والتي تستأجرها روسيا من أذربيجان ومحطة(فارونيج -م) الحديثة الجاري بناؤها في ضواحي مدينة أرمافير الروسية, وهو ماعرضه الرئيس الروسي فلاديمير على رئيس الولايات المتحدة جورج بوش علماً بأن وفداً من الخبراء الأميركان زار غابالا حيث تفقدوا إمكانيات محطة الرادار فيها, وتأكدوا من أنها تغطي أراضي إيران والبلدان المجاورة بأكملها, وتبين أنهم لايمانعون استعمالها, ولكنهم يصرون في الوقت نفسه على ضمها إلى المنظومة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ المراد نشرها في أوروبا!
ولا تستطيع روسيا طبعاً أن تقبل بذلك لسبب بسيط هو أن موسكو مقتنعة بأن الصواريخ الأميركية المضادة للصواريخ في بولندا مثلها مثل الرادار في تشيكيا لن تخصص لإنذار الولايات المتحدة وأوروبا وحمايتهما من صواريخ إيرانية بقدر ماتستهدف إضعاف قدرة الردع الاستراتيجي الروسية في الشطر الأوروبي من البلاد.
صحيح أن عشرة صواريخ من طراز (GBI) الأميركية غير قادرة على اعتراض ضربة جوابية لو أصبحت روسيا مجبورة على الإقدام على توجيهها ولكن الولايات المتحدة لاتقدم أي ضمانات أكيدة بأن منظومتها الدفاعية في أوروبا ستكتفي بهذه الصواريخ ال 10 في بولندا, والرادار في تشيكيا, بل إنها تلمح إلى أن منظومتها ستخضع لتوسيع وتعزيز وتحديث لاحق مما يهدد مباشرة قدرة روسيا الدفاعية وأمنها.
لقد باتت أزمة البحر الكاريبي التي استغرقت 38 يوماً نقطة انعطاف في سباق التسلح النووي وفي( الحرب الباردة) إذا اقتربت الإنسانية إلى خط تفتحت وراءه هاوية, وقد أدركت الدبلوماسية السوفييتية والأميركية والأوساط السياسية والعسكرية في البلدين عقم التهديد المتبادل بالسلاح, فخلصوا إلى ضرورة إيجاد تفاهم حول كل المشكلات الشائكة قبل أن يضغط الإصبع على زر إطلاق الصاروخ وكانت أحداث تشرين الأول عام 1962 هي التي حملت البلدين على انتهاج سياسة الانفراج وادراك قابلية كليهما للإصابة الكارثية وضرورة تقليص الأسلحة الهجومية الاستراتيجية, وتوصل الأمر أخيراً إلى عقد معاهدات مناسبة وفي مقدمتها معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ عام .1972
والمؤسف أن الإدارة الأميركية الحالية انسحبت من هذه المعاهدة ما أدى إلى تفاقم العلاقات بين موسكو وواشنطن.
فهل من الضروري اليوم تصعيد التوتر في العلاقات بين البلدين إلى حد نشوب أزمة على غرار أزمة البحر الكاريبي, في حين يدرك الطرفان إلى أين يؤدي تجاهل المصالح الأمنية بعضهما لبعض?
وإذا كانت واشنطن تريد توريط روسيا في سباق التسلح ومن ثم هدم اقتصادها فإنها تخطىء في حساباتها, ذلك لأن لدى روسيا اليوم مايكفي من السلاح لكي ترد رداً مناسباً لايكلفها كثيراً ولكنه فعال, ومع ذلك فإن روسيا لديها كل ماهو ضروري لمجابهة التحديات التي تطرحها إدارة البيت الأبيض الحالية في وجه الكريملين.
و من المشكوك فيه أن يربح أحد من هذه المجابهة, والخاسر الرئيسي سيكون أوروبا دون أدنى شك, وإذا ما انسحبت روسيا من معاهدة الصواريخ ذات المدى المتوسط والقصير وصوبت صواريخها النووية إلى المواقع المراد نشرها من المنظومة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ فإنه لن يجعل حياة الأوروبيين أكثر اطمئناناً.