تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الاستهلاك الرائع

ملحق ثقافي
2018/9/18
إن فكرة تسويق الفن وجعله سلعة ككل السلع الأخرى، قد أساءت للفن بقدر ما أفادته. فأولاً يمكنها أن تحرف الفن عن مساره الطبيعي،

وسيصل إلى أيدي الذين باستطاعتهم أن يشتروا هذه السلع، وثانياً ستكون هذه التجارة إيجابية للفنان الذي لا مهنة له سوى الفن.‏‏‏

ثورستين فيبلين، ومنذ عام 1899، أطلق نظرية «دعه يعمل، دعه يمر»، وهي جملة فرنسية جرى تبنيها كعبارة مختصرة تعني: استراتيجية السماح للأسواق بالعمل بحرية تامة، ولا يقيدها أي شكل من أشكال الإدارة أو اللوائح أو الأشكال الأخرى للتدخل الحكومي. وفي المقابل نبه فيبلين إلى أن سوق الفن هي السوق التي يرتفع فيها الطلب مع ارتفاع السعر بدلاً من أن ينخفض، وهذا يناقض مبدأ السوق الأمثل للعرض والطلب. وأطلق فيبلين على هذه العملية «الاستهلاك الرائع»، شارحاً أن السعر المرتفع للوحات الفنية مثلاً هو الذي خلق الطلب عليها وأن «الأثرياء استعملوا الأشياء باهظة الثمن كي يميزوا مكانتهم الاقتصادية».‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

من يستطيع دفع 126 مليون دولار ثمناً للوحة «عباد الشمس» لفان كوخ؟‏‏‏

بالتأكيد ليس الفنانون هم الذين يشترونها، إنهم أصحاب الثراء السافر، الذين أدخلوا الفن ضمن لعبة العرض والطلب والاستغلال المفرط للجمال الفني.‏‏‏

إذاً، هناك قوانين جديدة في تاريخ الفن، يطلق عليها «سوق الإنتاج الثقافي». ولأن ما هو موجود في السوق لا يلبي الطلب من عدة نواح، ولا يجب إعادة عرضه دائماً، كان على تجار هذه السوق أن يخلقوا نجوماً ويلمعوهم كي يتاجروا بأعمالهم. وتوجه التاجر المحنك إلى إدخال الإنتاج الفني والأدبي في السوق المعاصرة.‏‏‏

سيتم الإعلان عن بيع لوحة ما، كما يعلن عن أي منتج استهلاكي آخر، ولكن هنا سيكون الأمر مختلفاً قليلاً، لأن هذا المنتج هو قطعة واحدة، ولا يمكن تكراره لملايين النسخ، وبهذا تكون اللعبة أكبر، وتدفع مالكي المال للمنافسة على المنتج، الذي ربما يزيد عمره عن ألف سنة من الآن.‏‏‏

في لحظة ما ستخرج لوحة من مكان خفي من العالم، وسيعلن صاحب مزاد ما بأن اللوحة لفنان من عصر النهضة، وقد تم اكتشافها الآن. وسيبدأ المزاد على اللوحة، وستنال رقماً فلكياً، وسيشتريها رجل أعمال لا يعرف – ربما – من هو هذا الفنان، وسيعلقها في بيته، ويتباهى باقتنائها. فيما الفنانون، لا يمكنهم حتى حضور المزاد.‏‏‏

إنه عالم بالمقلوب، حيث لا يحق للفنانين أن يقيموا هذه اللوحة فنياً، أو أن يعطوا رأيهم فيها، ويختبروا أنها تعود لذاك الفنان أم لا. كل ما يمكنهم فعله، هو النظر إليها – كغيرهم – عبر الشاشات الزرقاء.‏‏‏

في العقود الأخيرة، وبسبب استقرار اللوحات القديمة في منازل ومتاحف محددة، تبلورت آليات التعامل مع المنتج الفني نشراً وتسويقاً، وتزعمت الولايات المتحدة وبريطانيا قيادة عملية تحول الفنان إلى رأسمال في العملية الاقتصادية، عبر قياس انتشاره في التداول العام، وتصنيع فنانين جدد حسب الطلب سيتحولون إلى استثمارات مربحة للغاية.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

أصبحت قيمة الفنان التشكيلي تقاس بمدى ترويجه لنفسه، ومدى ترويج المؤسسات الرأسمالية له. وانفك الارتباط بين نجومية الفنان وبين قيمة اللوحة التي أنتجها.‏‏‏

تحت وطأة الحاجة المادية، وتحت وطأة سيطرة الاقتصاد على كل شيء، على مستوى العالم ككل، استغنى الفنان عن فاعليته ومشروعه، وأصبح التعويل الشعبي على الفنانين عموماً، سيصطدم بفقر هذه الشريحة وتأخرها عن ركب الأفكار الإنسانية الكبيرة أو إنتاج أي فعل تغييري، حتى ولو على المستوى الجمالي.‏‏‏

خلت الساحة العالمية تقريباً من نجوم الفن التشكيلي، ليحل محلهم نجوم يعملون في صناعة الترفيه أكثر مما ينتجون لوحة. واستولت هذه الأسماء الجديدة – مع يقظتها المستمرة وتواجدها الدائم في الفضاء الافتراضي – على مساحة جيدة من الإعلام، لكنها فرضت أيضاً مساحة من التسليع والضحالة الإبداعية والابتذال. وهكذا، فقد ترسخ مشروع الرأسمالية تماماً، ولم يعد هناك ما يغير القاعدة، وليس في الأفق من يمكنه اختراق هذه الجدران السميكة من السيطرة المالية.‏‏‏

في المقابل شرع رهط من الفنانين في لعبة مؤسسات الربح الثقافية، وظلوا يتحدثون عن روح الفن وضرورته وغاياته النبيلة، ويبررون فنهم بأنه تعبير جديد وحداثة يفترضها الواقع المتسارع. وكل هذا - في رأيهم - يصب في مصلحة الجماهير.‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية