تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الفلاحون في الفن تبجيل مُستَحَق لعشاق الأرض

ملحق ثقافي
2018/9/18
د. محمود شاهين

تناولت الفنون بعامة، والفنون التشكيليّة بخاصة، موضوع الفلاحين من جوانب مختلفة، وبأساليب وصيغ مختلفة أيضاً، ترتبط برؤية المبدع لهذه الفئة الكادحة من البشر التي تقوم بتوفير سلال الغلال، وأسباب العيش والاستمرار في الحياة،

للناس جميعاً، وذلك من خلال التصاقها الوثيق بالأرض التي تُشكّل عشقهم الأزلي الأول والحميمي الذي لا يتعب ولا يتعبون منه.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

أصدقاء التراب‏‏‏

يعشق الفلاحون أرضهم في الفصول كافة، لكن للصيف عندهم نكهة خاصة، عندما يأتي مُحملاً بسخاء الينابيع، وكرم الغلال الطيبة، وصمت العشايا الساحر.‏‏‏

فمع سخاء الينابيع، يتلون الصيف بالأخضر والأحمر والثقة المطمئنة. وبالغلال الوافرة، تسكن البسمة وجوه الفلاحين المتعبة، ويرتمي الاطمئنان في نفوسهم، وشيئاً فشيئاً يتحول الوعد بين أيديهم صديقة التراب الوفية، إلى شكل أولي للحقيقة: حقيقة أنهم أمام عام لا يسكنه الخوف ولا تحكمه الصدفة.‏‏‏

وفي صمت العشايا، تطيب أحاديثهم، وتأخذ بعداً خاصاً في النقاء والعمق والدعة أغانيهم عن الزمن الذي مضى والزمن الذي سيأتي.‏‏‏

سلوك متميز‏‏‏

للفلاحين مع الأرض سلوك متميز يختلف من يوم إلى يوم، ومن سنة إلى أخرى، سلوك يتبدل باستمرار، غير أنه يبقى محكوماً بما يشبه العشق السري العجيب والغامض لدرجة يصعب معها تحديد زمن بدئه والكيفيّة التي تمت بها صيرورته.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

لدراسة هذا السلوك ووضع اليد على أسراره، لا بد من الإلمام (على الأقل) بألف باء هذا العشق القائم بين الفلاحين وأرضهم، وإلا ستكون النتيجة جملة من الأحكام الخاطئة عن هذه العلاقة أو هذا السلوك.‏‏‏

حالة العشق العجيبة القائمة بين الفلاحين وأرضهم، لها أكثر من مظهر، وأكثر من شكل. فهي بالنسبة إليهم الحبيبة الأكثر إثارة. هي الخلاص ونبع الفرح الذي لا ينضب. هي الكتاب الذي يقرأون فيه بشغف تحولات الأزمنة، وحركة الفصول، وشكل المستقبل الذي سيأتي. لهذا قد يستطيع الفلاح الغياب عن زوجته وأولاده مدة من الزمن تطول أو تقصر، غير أنه لا يستطيع أن يمتنع عن زيارة أرضه والتعامل معها يوماً واحداً إلا إذا كان رغماً عنه. لذلك تراه بين يديها في كل الفصول: في البرد القارس وفي الدفء الزائد عن حده. وفي أيام المحل وفي أيام الخصب.‏‏‏

أسرار ومفاتيح‏‏‏

للأرض أسرارها الخاصة، ولكل سر مفتاح، وجملة مفاتيح هذه الأسرار، يقبض الفلاح عليها بسعادة من يمتلك كنزاً ثميناً. هي كالفرس الحرون، لا تستكين إلا له، ولا تكشف عن مكامن سحرها وجمالها إلا له، وبين راحتيه المشققة وتضاريسها، ألفة عمر، وصداقة حميمة، وتشابه كبير، فهي صورة طبق الأصل عن الأرض الخصبة التي تتشقق كلما عطشت، وترتوي كلما منحها راحتيه القابضة على أسرارها ومفاتيحها.‏‏‏

الحراثة والبذار‏‏‏

مراجعة متأنية للأعمال الفنيّة المتنوعة التقانات التي تناولت موضوع الفلاحين، نجد أن مشهد الفلاح وهو يحرث الأرض، وينثر البذار، بوساطة أحد الحيوانات المدجنة والقادرة، تكرر في العديد من الأعمال. فقد حمل وعاء ذهبي يعود لعام 1500 قبل الميلاد وموجود في المتحف الوطني بأثينا، صورة لفلاح يحرث الأرض بوساطة ثور، نُفذت بصيغة النحت النافر، وتكررت هذه الصورة على شكل تمثال منفذ من الطين المشوي يعود إلى 800 قبل الميلاد، موجود في متحف اللوفر بباريس، يجسد فلاحاً يحرث الأرض بالأداة المعروفة باسم (الصمد) وبواسطة ثوريين مخصيين. نفس المشهد يتكرر فوق مزهرية مسطحة مرسومة باللون الأسود تعود إلى العام 600 قبل الميلاد موجودة في متحف مدينة برلين، مع ملاحظة قيام منفذ العمل بتكرار مشهد الفلاح ومحراثه وثوره ثلاث مرات، وثمة إشارة إلى إنسان يرش البذار، وآخر يصطاد، وعدد من الغزلان. وترصد أنتيكا رومانية، تعود للقرن الأول قبل الميلاد، منفذة من المرمر، موجودة في مدينة ميونخ، منظراً طبيعياً يضم فلاحاً مع دلو وبقرة وبيوت وأشجار.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

وضعيات مختلفة‏‏‏

رصدت أعمال فنية أخرى، الفلاح ضمن وضعيات مختلفة، منها تمثال لفلاح صيني مدهون موجود ضمن المقتنيات الرسمية لمدينة دريسدن الألمانية يعود إلى القرن 7 ـ 10، ونحت نافر يمثل فلاحاً يعالج أداة الحصاد يعود إلى 1210 ـ 1220 موجود في نوتردام بباريس، ويرصد تفصيل من جدار زجاجي موجود في دير بمدينة ايرفورت الألمانية فلاحاً يمارس الحفر يعود لعام 1420 ـ 1370، وترصد ثلاث موتيفات من كتاب مصور يعود إلى القرن الثاني عشر وموجود في أحد متاحف بون، مراحل جني محصول القمح، بأسلوب الأيقونات. وترصد لوحة منفذة من الفريسك تعود للعام 1306 ـ 1303 راعيين جبليين، وترصد منمنمة تعود لما قبل عام 1416 عملية البذار في حقل إلى جوار قصر فخم، وبواقعيّة مدهشة، تطغى عليها سمة الزخرفة، ترصد سجادة جدارية تعود إلى العام 1500 موجودة في متحف الفنون الزخرفيّة بباريس، ورشة رسمية لتصنيع الخشب، بدءاً من قصه في الغابة، وانتهاءً بوصوله إلى المناشر والورشات. تضم هذه السجادة، مشاهد كثيرة لفلاحين، وحيوانات وأشجار ونباتات وأدوات عمل مختلفة. وتوثق منمنمة تعود لعام 1510 موجودة بمكتبة في مدينة فينسيا الإيطالية، حياة الفلاحين في الشتاء، بأسلوب واقعي دقيق يحيط بكل موجودات وتفاصيل هذه الحياة التي يعتكف فيها الفلاح في بيته، ممارساً لعدد من المهن والحِرف كالغزل والنسيج. وترصد محفورة منفذة ومطبوعة بوساطة الخشب تعود للعام 1532 حياة الفلاحين من سكان الغابات والحيوانات الأليفة التي يتعاملون معها.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

أعمال بارزة‏‏‏

نفذ عدد من الفنانين التشكيليين المعروفين، أعمالاً فنيّة هامة وبارزة، لموضوع الفلاحين، منهم الفنان (جان ماسيس 1509 ـ 1575) الذي نفذ لوحة زيتية حملت عنوان (فلاحون لدى جامع ضرائب) منفذة العام 1539 وموجودة في متحف درسدن. تمثل هذه اللوحة الرصانة الأسلوبية لعصر النهضة. أما الفنان (بيتر بروغل 1525 ـ 1569) فقد اشتهر بأعماله التي كرسها لحياة الفلاحين، لعل أشهرها وأهمها لوحة (عرس الفلاحين) المنفذة عام 1568 والموجودة في أحد متاحف فيينا، ولوحته (رأس فلاح) الموجودة في درسدن. ومن الأعمال المهمة، لوحة (مجتمع الفلاحين) للفنان (أدريان فان أوستاد 1610 ـ 1680) التي تتماهى كأسلوب مع فن (بروغل). ولوحة (رقص الفلاحين) للفنان (بيتر باول روبنز 1577 ـ 1640) المنفذة عام 1638 والموجودة في متحف برادو بمدريد،‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ولوحة (آكل الفاصولياء) للفنان (أنيبال كراسي 1560 ـ 1609) الموجودة في أحد متاحف روما، ولوحة (عائلة الفلاح) للفنان (لويس لي ناين 1593 ـ 1648) المنفذة عام 1642 والموجودة في متحف اللوفر بباريس، ولوحة (غلال الكرم) للفنان (فرانسيسكو دي غويا 1746 ـ 1828) المنفذة عام 1786 والموجودة في متحف برادو في مدريد، ولوحة (ربيع البلاد) للفنان (ألكسي ج. فينتسيانوف 1780 ـ 1847) الموجودة في المتحف الرسمي بموسكو، ولوحة (استراحة فلاح النبيذ) للفنان (جان فرانسيسكو ميلبت 1814 ـ 1875) المنفذة عام 1869، ولوحة (آكلو البطاطا) للفنان (فان كوخ 1953 ـ 1890) المنفذة عام 1885 والموجودة في متحفه بأمستردام، ولوحة (الخنزير الأسود) للفنان (بول غوغان 1848 ـ 1903) الموجودة في متحف الفنون الجميلة بمدينة بودابست، ولوحة (صانعة الزبدة) للفنان (ميلاي مونكانسكي 1846 ـ 1900) الموجودة في المتحف الوطني الهنغاري ببودابست، ولوحة (السياسي الريفي) للفنان (وليم ليبل 1844 ـ 1900)، ولوحة (صورة الفلاح) للفنان (كورت كويورنر) المنفذة عام 1933 والموجودة في مدينة هالة الألمانية، ولوحة (محصول قصب السكر) للفنان (دييغو ريفيرا 1886 ـ 1957)، ولوحة (جني الرز) للفنان (هونغ تيش جو) الموجودة في برلين، ولوحة (راحة أثناء الحصاد) للفنان (فالتر فوماكا) الموجودة في درسدن.. وغيرها الكثير من اللوحات والمحفورات وأعمال النحت والخزف التي رصدت ووثقت وعالجت موضوع الفلاحين، من جوانب وزوايا مختلفة، تدليلاً وتأكيداً، على دورهم المفصلي الهام، في صنع الحياة واستمرارها.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

لم يقتصر الاحتفاء بهذه الفئة من البشر المنتجين المثابرين الطيبين، على الفن التشكيلي بأجناسه المختلفة، بل تجاوزه إلى الأغنية والاسكتش والرواية والشعر والموسيقا والسينما والتلفاز والتصوير الضوئي، وغير ذلك من وسائل الاتصال البصري والسمعي، منذ البدايات الأولى لتعرف الإنسان عليها وحتى يومنا هذا.‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية