|
الأمهات .. نبض الحياة وفي عيدهن .. يولد الربيع ...أجمل الأمهات ملف الأسبوع في حياتهن جميعاً لا يختلف عيد الأم كثيراً عن باقي الأيام, لكنه سرعان ما يأخذ طعماً آخر حين تنهض فيه الذكريات, اجتماع العائلة,ضجيجها, ضحكاتها..وفي بلادنا, البلاد التي أنهكتها الحروب والأنظمة, يصير عيد الأم مختلفاً, تغيب فيه الورود, تغيب الهدايا, تغيب القبلات عن أيدي الأمهات, ولا ينهض إلا الحنين والحزن ليصير العيد هاتفاً وصوتين, تصريحاً بزيارة سجين, إبريق ماء يرطب رخام قبر الفقيد.
** خنساء فلسطين...أم الأسير.. والثلاثة شهداء في الصورة المتلفزة, وبينما يلقي وصيته, كان على الاستشهادي أن يبقى وحيداً, لينفرد وحيداً بإذاعة خبر استشهاده وتفاصيل عمليته..الصورة محايدة تنقل ما تبوح به شفتي الاستشهادي , تضيق حتى لا تتسع إلا له..أما الآخرين: الأم والأب والأخوةوالأصدقاء و...فجميعهم لهم أماكنهم أمام الصورة يتسمرون بها, بوصفها آخر ما التقط للشهيد.. في الصورةالمتلفزة , إلى جانب الاستشهادي محمد فرحات, وهو يلقي وصيته, كانت أم نضال فرحات - أمه, تقاسم ولدها الابتسامة الأخيرة وتزاحمه على ضوء الكاميرا: (أي بني, تزحزح قليلاً, وضع يدك على كتفي, دعني أُقبلك قبلة الوداع, لتلتقط صورتك أيها المصور, أني هنا أزف ولدي إلى الشهادة ليشفع لي... من كانت تحب ولدها فلتعطه, كما أعطيت, أغلى ما تستطيع: الجنة..).
في الصباح ودعها محمد, غلبتها عاطفة الأمومة, فبكيت أمامه, ولكنها قالت له: إياك أن تصدق دموعي(. حبست دموعها, وابتسمت له ابتسامتها الأخيرة, وهي توصيه بذكر الله والتوكل على الله والتركيز في تنفيذ العملية. في الطريق اجتاز محمد كافة الحواجز الصهيونية إلى أن دخل مستوطنة )عتصمونا), وبانتظار تجمع أكبر عدد من العسكريين الصهاينة, تذكر وصية أمه, قبض على بندقيته بشدة, كانت تقول له(أريدك أن تقاتل بالسلاح لا بالحجر(,ابتسم لها دون أن تراه, تذكر وصيتها الأخيرة (ألا يتردد), لقم بندقيته وانقض على العسكريين ليقتل سبعة منهم ويجرح العشرات.
في البيت بقيت أم نضال فرحات مستيقظة طوال الليل تدعو الله عز وجل بنجاح العملية, تابعت بلهفة نشرات الأخبار, انتظر الخبر العاجل لياتيها بمحمد شهيداً, لم تقبل أم نضال التعزية بشبلها بل زغردت له ووزعت الحلوى وفتحت بيتها لاستقبال المهنئين باستشهاده وبنجاح العملية. بعد عام من عرس محمد, زفت أم نضال ابنها البكر نضال, بعد أن أستشهد بعبوة ناسفة زرعها عميل في سلاح كان يعد لتنفيذ عملية في الداخل الإسرائيلي. بعد عامين على استشهاد نضال, كان الأخ الثالث رواد فرحات أن يلحق أخوته إلى الجنة, حين داهمت سيارته غارة إسرائيلية...هكذا اكتمل عقد الشهادة في رقبة خنساء فلسطين أم نضال, لتكمل في العام 2005 دفع نصيبها من واجب الدفاع, وتقف لتتقبل التهاني بثالث أخوته الشهداء, وتنتظر رابعهم الذي يقبع منذ 11 عاماً خلف القضبان أسيراً.
تكبر أم نضال فرحات على جرحها, تبتسم لما تبقى لها من حمل بطنها, تعرف إن كلهم شهداء, وإنهم إلى درب الجنة سائرون.. أم نضال لم تعدم قلبها, ما زال يجزع لخبر موت الأول, وتبكي..تبكي وتصر كعادتها: (لا تصدقوا دمع الأم على الشهيد, إنها دموع الفرح). ** و جدة الثمانين حفيداً ...شهيدة في السبعين لا أعرف من قلب المعادلة, كان من الممكن أن يكون مكانها فما الذي جعلها تقف في مكانه.. كان من الممكن لابن فاطمة أن يتوشح بزنار بندقيته, يتلو وصيته الأخيرة عن الحياة التي يغادرها ليستطيع أخوته إليها سبيلاً.. قبل أن يوصي أمه بألا تبكي..لكنها سبقته إلى مقبض البندقية ووقفت أمام الكاميرا لتتلو وصيتها: (أقدم نفسي لله وفداء للوطن ثم للأقصى, وأدعو الله أن يتقبل الله مني هذا العمل, وأقدم نفسي للمعتقلين والمعتقلات, وأسأل الله أن يفك أسرهم, ويتقبل الله منا جميعاً...), قبل ان تطلب من أبنائها توزيع الحلوى عند سماع نبأ استشهادها. في الصباح الباكر استيقظت فاطمة النجار وأدت صلاة الفجر كالمعتاد, قرأت القرآن, ثم تناولت إفطارها وأدت صلاة الضحى, وتفقدت منازل أبنائها السبعة, أوصت أبنائها, وجلست قليلاً مع أحفادها, وغابت لتعود عبر مكبرات المساجد, تزف بشرى استشهادها. كان على فاطمة ان تمشي على قدميها نحو 4000م , لتقتحم منزلاً حولته القوات الخاصة الإسرائيلية كمقر قيادة لها شرق بلدة جباليا, في الطريق استعادت بذاكراتها أسماء أبنائها التسعة وأحفادها الثمانين, لوهلة عتبت على ذاكرة السبعين عاما عمرها, التي لم تعد قادرة بسهولة على تذكر ملامح الأبناء وأبنائهم الثمانين.. لم تضعف عزيمتها, وهي في مواجهة الموت, تذكرت فاتورة معاناتها مع الإسرائيلين فتجاسرت أكثر, (كان خمسة من أبنائها قد تم اعتقالهم خلال الانتفاضة الأولى, وقامت إسرائيل عام 1990, بهدم منزلها, إضافة إلى أن لها حفيداً نفذ عملية عسكرية في معبر إيرز الحدودي عام 1990, وقامت قوات الاحتلال بإعدامه على الفور وأطلقت عليه 70 طلقة, لكن مشيئة الله منحته الحياة. وفي عام 2003, استشهد حفيدها الثاني في قصف إسرائيلي لتجمع مدني فلسطيني)...بدت الفاتورة ثقيلة كفاية لتحث الخطا نحو هدفها. لم يتعبها المشي, فقد اعتادت عليه من قبل في المسيرات, في مواجهة الاحتلال.. ولاسيما المسيرة الأخيرة, التي استطاعت كسر الحصار عن أكثر من سبعين مجاهداً في مسجد النصر في بيت حانون...وأخيراً وقفت وجه لوجه أمام الموت..في وجهه نهضت ذاكرتها فتية نشيطة, فكان بوسعها تذكر ملامح أحفادها الثمانين,كان بوسعها استعادة شريط حياتها كاملة في اللحظة التي نادها الموت, وهي تنزع صاعق الحزام الناسف حول خصرها... بسملت , دعت الله ان يتغمدها برحمته, ابتسمت للموت, قبل أن تعانقه مع ارتفاع صوت الانفجار شمال قطاع غزة. ** وهنا ترقد الشهيدة أم الشهيد يوسف على موعد مع الشهداء كنت افتتح الصباح الأول للعيد...ماء وريحان أخضر لقبر كل شهيد لم يُعرف أهله, وقبلة على جبين أم كل شهيد عرفت قبر ابنها, فجاءت لترطب رخامه بالدمع وحنو يديها. هناك سألتقي أم يوسف الخياطة لأول مرة, وعند قبر ولدها ستخبرني عن استشهاد كبير أخوته, وقد مات في الثمانية عشر من عمره دون أن يودعها...هي قبلة فقط طبعها فوق يديها, وهو يخبرها بأنه سيسهر مع الأصدقاء ويبيت الليلة معهم, وفي الصبح عاد الكبير إليها شهيداً لم تكن لتمنعه لو أنه أخبرها, تقول لك, كانت تريد فقط أن تعانقه, وأن تلملم حرارة أنفاسه لتجفف بها الدمع إذا ما مات شهيداً. ذهب الكبير ولم يبق منه سوى شاهدة الرخام تلك..تقولها أم يوسف, قبل أن تختنق بالدموع, فتصمت. بعد عام أو أكثر سألتقي أم يوسف مرة أخرى, في جنازة أبو جهاد الوزير, سأقول لها بأني أعرفها, وأنها أم الشهيد الذي مات دون يودع أمه, وستقول أنها عرفتني, وأني الفلسطيني من مخيم اليرموك, كما كنت أصر دوماً على التعريف بنفسي. ووسط جموع الزاحفة إلى المقبرة خلف جثمان الشهيد سنردد معاً هتافات الروح والدم نفديك يا فلسطين, تتكئ العجوز على كتفي, وأتكأ, أنا, على صوتها الغاضب..لنصير صاحبين, تؤلف صباحات العيد, وشواهد القبور, ريحانها, وهتافات المخيم... قلبينا. سنوات مرت على اللقاء الأول بيننا, وها هو العيد يدق أبوابه علي مرة ثالثة دون أم يوسف... رحلت العجوز منذ أكثر عام ونصف, لتترك بين يدي ذكرى اللقاء الأول, رخام قبر ولدها, ورخام قبر جديد, حفرتَ فيه بعينين دامعتين: هنا ترقد الشهيدة أم الشهيد يوسف
|