تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


النتائج الأخلاقية للنمو الاقتصادي

دراسات
الثلاثاء 27/12/2005م
حكمت فاكه

يؤكد أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة هارفارد بنجامين فريدمان في كتابه تحت عنوان (النتائج الأخلاقية للنمو الاقتصادي) ,

أن النمو الاقتصادي يمثل ضرورة لامناص منها, لاتجاه المجتمعات البشرية إلى المزيد من الليبرالية والانفتاح والديمقراطية .‏

لكن السؤال هو : هل هناك ما يبرر اعطاء كل هذا الاهتمام للنمو الاقتصادي? للإجابة على هذا السؤال كان يتعين على الكاتب أن يذهب إلى ما هو أبعد من مجال الاقتصاد وحده . كما سنرى . كما كان على الكاتب أن يستقصي التاريخ السياسي والاجتماعي لبلدان الديمقراطيات الغربية, ولاسيما تاريخ الولايات المتحدة الأميركية منذ أيام الحرب الأهلية, وذلك بهدف عقد مقارنات بين الفترات التاريخية التي شهدت ارتفاعاً عاماً في حياة الأفراد في المجتمع.‏

وبين تلك التي شهدت تردياً في المستوى المعيشي وكساداً اقتصادياً عاماً, كي يدلل على العلاقة الوطيدة بين ازدياد توجه المجتمع نحو الديمقراطية والانفتاح وارتفاع مستوى الدخل والحياة اليومية لأفراده . كما وجد الكاتب أنه لا مناص من دراسة ما إذا كانت لسلوك المجتمعات ازاء النمو الاقتصادي ونتائجه جذور في التراث الفكري للقرون السابقة , لا سيما فلسفة عصر التنوير وتراث الفكر الديني.‏

ومن بين أهم الاستنتاجات التي خرج بها المؤلف من كل هذه الدراسة والمقارنات التاريخية , أن النمو الاقتصادي , وليس مجرد ارتفاع المستوى المعيشي لحياة المجتمعات في الدول النامية والفقيرة على نحو خاص , يعد عاملاً لا غنى عنه في إحداث أي تحول ديمقراطي حر وحقيقي في تلك الدول, أما في الدول الصناعية الغنية نفسها, فقد رد الكاتب ظهور النازية في ألمانيا وصعود نجمها في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي, إلى الانهيار الاقتصادي الذي مرت به ألمانيا في تلك الحقبة . كما رد فريدمان نشأة الحركات السياسية الشعبية واليسارية والتقدمية, وكذلك نشاط منظمة - كوكلاس كلاند- إلى جذور ظروف الكساد والأزمات الاقتصادية التي مرت بها أميركا في تلك الفترة أيضاً.‏

ومن خلال المقارنات والدراسات التاريخية التي أجراها الكاتب بين قرنين على الأقل , يلاحظ أن اهتمامه قد انصب أكثر على قياس معدلات نمو الدخل الفردي والقومي, وكذلك قياس معدلات البطالة في مختلف الدول التي شملتها الدراسة. وعلى الرغم من دفاعه المستميت عن العولمة والتصدي لآراء منتقديها إلى جانب كونه واحداً من أبرز وأقوى الأصوات الاقتصادية الناقدة للسياسات الضريبية التي تتبناها ادارة الرئيس بوش الحالية , لكنه حذر من أن تتردى القيم الديمقراطية في أميركا نفسها, لو تواصلت معدلات الفقر الحالية, واستمر التباطؤ الاقتصادي الذي تعاني منه أميركا حالياً. ذلك أن العلاقة الجدلية التي تربط بين اتساع رقعة القيم والمبادئ الديمقراطية والليبرالية من ناحية, والنمو الاقتصادي من الناحية الأخرى واحدة وتفعل فعلها في جميع المجتمعات والدول سلباً وإيجاباً , وبهذا المعنى, فإن الكتاب عبارة عن دراسة تاريخية للأثر الاقتصادي على نمو وتطور المجتمعات البشرية, وبما أن عرض الكتاب قد تطرق إلى المقارنات التاريخية في تاريخ الفكر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي, فإنه يجدر بالذكر أن المفكر الاقتصادي الكلاسيكي آدم سميث كان قد توصل في القرن الثامن عشر , إلى الاستنتاج نفسه الذي توصل إليه فريدمان في كتابه الذي نعرضه اليوم .‏

وإذا كانت المقولة الأساسية التي صاغها فريدمان في كتابه هي أن استدامة الديمقراطية والانفتاح واتساع القيم الليبرالية , إنما تعتمد جميعها على مدى النمو الاقتصادي لمجتمع ما من المجتمعات وليس على مجرد زيادة المستوى المعيشي لحياة الأفراد أو المجتمع ككل. فقدكانت صياغة مقولة آدم سميث تصب في المعنى ذاته حين قال :( في الدولة التقدمية وحدها) وإذ يتجه المجتمع نحو المزيد من النمو والتقدم وليس حين يكون كاسداً, حتى وإن بلغ أقصى درجات غناه يرجح أن يكون المجتمع بأسره أكثر سعادة وراحة ورفاهية) .‏

وإذ يعول فريدمان على مستوى النمو الاقتصادي وليس مجرد ارتفاع المستوى المعيشي, فإنما يفعل ذلك مدفوعاً بقناعته الذاتية الخاصة بأن النمو الاقتصادي هو الذي يشكل الهوية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية لأمة ما ويحدد معالم شخصيتها.‏

ومن رأي المؤلف أن الفكر التقليدي المتعلق بالنمو الاقتصادي, يتسم بالكثير جداً من الضيق والمحدودية , لكونه يتجاهل شقيه السياسي والأخلاقي . ولكن أليس صحيحاً أن شعور المجتمعات بالسعادة والرفاه هو شعور نسبي, وأن في مقدور المجتمعات البشرية في مختلف العصور, أن تكيف نفسها واحساسها وفقاً للمستوى المعيشي المتاح لها,, سواء كانت غنية أم فقيرة ?‏

لم يفت هذا السؤال على المؤلف , الذي أجاب عليه بجملة اعتراضية اضافية, ملخصها أن الشعوب تكون أكثر سعادة وغبطة فيما لو شعرت أن مستواها المعيشي في ارتفاع مستمر, أو في حالة شعورها بأن حياتها أفضل من جيرانها مثلاً, وهناك جانب آخر, اهتم المؤلف بمناقشته وتناوله بقدر كبير من التركيز, هو العوامل الخارجية للنمو الاقتصادي مثل البيئة المحيطة والتلوث البيئي . وقال إن على المخططين وواضعي السياسات , الاهتمام بهذه العوامل ,إن كانوا يريدون لاقتصادات بلادهم أن تعمل بكفاءتها القصوى وتحقق أعلى نمو اقتصادي ممكن, على أن هناك الكثير ممن أخذ على فريدمان نظرته التقنية المجردة للعملية الاقتصادية هذه. وكأن مشكلات الهوة الاجتماعية والفارق الاقتصادي بين شتى الفئات الاجتماعية, يمكن حلها من خلال النمو الاقتصادي وحده.‏

واحتج هؤلاء بنموذج العولمة نفسها التي يستميت الكاتب في الدفاع عنها, بقولهم إن العولمة حققت نمواً اقتصادياً لا يرقى إليه الشك, في عدد من البلدان الصناعية بالذات , لكنها لم تردم الهوة القائمة بين الشمال والجنوب, أي بين منطقتي الفقر والغنى في عالمنا المعاصر, ولذلك ,فإن ردم هذه الهوة لن يتحقق من خلال العملية الاقتصادية وحدها, وإنما يتطلب توخي العدالة في توزيع الثروات واتباع استراتيجيات جديدة ترمي إلى مكافحة الفقر وصيانة حقوق الانسان من باب تحسين الشرط الاقتصادي المحيط به.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية