وهو يحمل صينية عليها فنجان قهوة واحد, إنما من دون قهوة, فيقع الفنجان ولا تراق القهوة على ثياب أحد منهم, ولا على الأرض, فيغدو المشهد مثيراً للضحك بدلاً من الإقناع بطبيعة الحركة وعفويتها أو صدقها..!
لا أدري لماذا يخطر على بالي مثل هذا المشهد وأنا أتابع بعض نشرات الأخبار في التلفزيون, حيث نشاهد حركة وبركة وديكورات جديدة, وآليات تقديم تجمع بين طاقم الفريق وحوار لطيف بين المذيعين والمذيعات في تقديم بعضهم, إنما قليلاً ما نشعر بذلك الحدث, إراقة القهوة, لنقتنع ببعض الأخبار, ولا أقول كلها, لأننا نظن أن خطاب العقل, اليوم, هو الأهم من خطاب الوجدان في ظل منظومة اتصالات عالمية لا يمكن تجاهلها, أو القفز فوق ما تقدمه من أخبار وتحليلات أصبحت بمتناول الجميع وفي كل بيت.
وأرجو ألا تتسرعوا كثيراً في النظر لما قلت, فأنا بالتأكيد لا أقصد بإراقة القهوة شيئاً من الابتذال أو الإثارة المجانية, فنحن ما زلنا مع الإعلام الصادق, ولكننا وهذا الأهم, مع الإعلام الشفاف القادر على مخاطبة العقل بمنطق مقنع, فليس من الطبيعي أن نعتمد على العاطفة وحدها, ومن الضروري أن ندرك, وأظنهم يدركون أن المنافسة الشديدة اليوم تفرض شروطها سواء شئنا أم أبينا..
وبعيداً عن لغة استقبل وودع المعروفة, هل يستطيع أحد أن يقول لي: متى استطعنا أن نكون في قلب حدث كبير وحقيقي وفي الوقت نفسه كانت لنا خصوصية وقدرة على التأثير في رأي المشاهدين?!.
هل نجحنا بالفعل في تغطية أحداث على جانب كبير من الأهمية أم كنا نأخذ الكثير مما تتناقله الوكالات, ومع ذلك كنا في بعض الأحيان متأخرين?!.
اسمحوا لي قليلاً أن أمر معكم على عدد من الصور التي كانت تثير الناس بسبب تغيبها عن الحضور رغم حضورها الذي لا يمكن تجاوزه أو إهماله..
في زمن مضى كنا نمنع عن الناس الأخبار التي تهاجم المنظومة الاشتراكية وخاصة الاتحاد السوفييتي, فيما يتعلق بقضايا الحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية.. وتخيلوا المسافة التي كنا نذهب إليها?!.
فيما مضى كنا نمنع أي خبر قد يمس بدولة عربية على المستوى السياسي بداعي الأفكار الوطنية والقومية والوحدوية.. أما الاقتراب في أي حوار (بناء أو غير بناء) في المجال السياسي فهذه من المحرمات التي كانت في سنوات سابقة..!!
ولنسأل هل يتذكر المشاهد السوري برنامجاً أو عملاً عميقاً عن قضية عربية يعد التغاضي عنها عملاً في قبيل دفن الرأس في الرمال وخاصة قبل سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة, والطامة الكبرى كانت عام 2003 مع سقوط بغداد, وأعتذر لإعادة التذكير بهذا المثال المؤلم, الذي غاب الخبر السوري عنه تماماً, فبدا وكأننا نعيش في عالم آخر لا ينتمي إلى ما يدور حولنا لمدة يوم كامل على الإطلاق..
نعم قد تكون لذلك أسباب سياسية أو وطنية, كما يحلو للبعض أن يبرر, ولكن ما دخل الخبر, الخبر بحد ذاته, في ذلك كله..? وهذا السؤال ينطبق على كل ما يمكن أن نقول عنه خبراً يجب أن نتعامل معه من هذا المنطلق وهذا المفهوم, وهناك الكثير مما يمكن الإشارة إليه في هذا المجال, وخاصة خلال (المعمعة الإعلامية) الأخيرة التي اتهم فيها الإعلام كله بالتقصير.. وأنا أعتقد أن الإعلام ليس بمنجى من المؤثرات الأكبر في خياراته والتي ساهمت في هذا التقصير دون أن ننسى الإمكانيات والقدرات وأشياء أخرى, حتى لا يقال إننا نتجنى, فنحن نعلم جيداً أن الإعلامي جزء من العملية المتكاملة وبالتالي الأفراد لهم دور وقد لا يستطيعون تجاوزه, وهذه بالتحديد أراها أزمة تتعلق بالرؤية الحقيقية لدور الإعلام اليوم .
وهنا أيضاً, نقول مع من يقولون إنه لا إعلام من دون أهداف وغايات, ولا وسائل إعلامية حرة بالمطلق.. نعم هذه حقائق معروفة للجميع ولكن ليس من المنطق أن نتمسك بمفاهيم أو آليات تجاوزها المنطق والزمان والحس السليم في التعامل مع الناس..
قد تقولون إن هناك تطويراً نلمس بعضاً من آثاره في الأداء الإعلامي وخاصة في التلفزيون, وفي نشرات الأخبار التي نتحدث عنها.. فنقول نعم نلاحظ ذلك.. ونحن نرى ذلك بادرة تحتاج إلى كثير من الجهود والأدوات لإقناع المواطن بالعودة إلى شاشته, فبعد عقود طويلة من ابتعاد هذا المواطن عن متابعة ما تقدمه هذه الشاشة لأسباب كثيرة, منها ما ذكرناه, من الصعب أن نقول له (نحن تغيرنا, تعال وشاهدنا).. الأمر يحتاج إلى عقود, وأرجو أن تكون سنوات, ليقتنع بمثل هذه العودة.. يحتاج إلى زمن ليقتنع أن الأسباب التي أدت إلى ابتعاده قد زالت وأنه سيجد على الأقل تسعين أو ثمانين بالمئة مما يبحث عنه, هل أبالغ بمثل هذا الحلم? أم أننا لا نزال غير قادرين على القراءة الجيدة?!.