بعوامل التغير وتحويلها إلى عوامل تغيير يحتاج إلى إمكانات كبيرة جدا وربما استثنائية فضلاً عن اختيار اللحظة التاريخية المناسبة لتحقيق هذا التغيير والإفادة من نتائجه .. فالظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي قد تتشكل بفعل تراكمات متنامية في البنية الاجتماعية ومنظومتها والبنية الاقتصادية ومرتكزاتها قد تحدث تغيرات هائلة على المستوى العالمي وتصبح بحد ذاتها ظواهر عالمية من حيث تأثيرها لكن القوى الكبرى تستقرئ هذه الظواهر فتحلل طبيعتها وتتحكم بعوامل تشكلها وتكيفها لخدمة مصالحها الاستراتيجية وبالتالي يدخل الفعل الإنساني على حالة التغير فيحولها إلى حالة تغيير موجه، فالفقر يمسي إفقاراً والجوع يصير تجويعاً والانقسام يصبح تقسيماً والاغتراب يغدو تغريباً ..
وتغير العالم لا يكون فقط على مستوى تغير اللاعبين الكبار فيه وتوزع موازين القوى داخله بل أيضاً على مستوى صيرورة التغير وعوامل تشكله أي أدوات تشكيل المعادلات الإقليمية والدولية وحجم تأثيرها في لحظة ما والقدرة على إحداث تغير نوعي واستراتيجي على المستوى الدولي والدليل على ما ذهبنا إليه في فهم معنى تغير العالم هو ما يحدث في هذه المرحلة التاريخية فلم يعد القوي قوياً متفرداً بقوته أو محدود المنافسين فالتكتلات الإقليمية والدولية باتت اليوم حاجة ملحة لتحقيق توازن استراتيجي مطلوب لحفظ الاستقرار الدولي نسبياً ومنع حدوث تصادم بين القوى الكبرى تكون الدول الضعيفة فيه ساحات صراعها ..
ولعل المفاجئ اليوم في هذه المرحلة التاريخية أن تستطيع دولة كسورية الخروج من محيط الانفعال إلى محيط الفعل دولياً وتجاوز التأثير في الملعب العربي والإقليمي فقط والذي انحسر تأثيرها فيه نتيجة غياب الشريك العربي واقتصار الشريك الإقليمي على إيران فقط بسبب العمالة والتآمر الذين وصلا حتى النخاع في النظام الرسمي العربي حيث فرض هذا الواقع ضرورة اعتماد سورية على تحالفات إقليمية ودولية راسخة يمكن توظيفها في لحظات تاريخية حاسمة أو أزمات كبرى كهذه الحاصلة اليوم في كسر إرادة الأحلاف المعادية التي تريد النيل من سورية باعتبارها دولة لا تزال على سكة الصراع مع الكيان الصهيوني أي في اشتباك مع المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وعلى الرغم من وجود هذه الأحلاف الاستراتيجية لسورية منذ فترات سابقة من عمر الصراع مع المشروع الصهيوني في المنطقة إلا أنها ما كانت لتتبلور وتتمظهر إلا في أوج مراحل الصراع مع هذا المشروع حيث تبدأ المعادلات الجديدة في التشكل من رحم الأحلاف الاستراتيجية الموجودة وتأخذ مظاهر حادة في التعبير عن نفسها مما قد يستتبع ولادة لمنظومة عالمية جديدة تغير قواعد الصراع الدولي وموازين القوى العالمية وهذا ما حصل على خلفية الأزمة السورية اليوم ..
فالتحدي الكبير الذي واجه العالم من خلال السيطرة الأمريكية المطلقة على الشرق الأوسط والتي كانت ستسمح لها بالاستمرار في قيادة العالم لعقود قادمة واضعة القوى العالمية برمتها تحت الأمر الواقع والذي عملت الولايات المتحدة على تشكيل عوامل وجوده خلال مراحل زمنية طويلة في هذا الجزء من العالم بالاعتماد على استراتيجية التغيير الممنهج لواقع المنظومة المفاهيمية والقيمية فيه والتحكم بكل عوامل التغير داخله على مستوى كل تلك البنى وجعلها عوامل تغيير لتحقيق المصلحة الأمريكية وحسب فكل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تم اللعب في مفردات تشكلها، فالدين الذي كان يشكل قاعدة النظام العلائقي الاجتماعي بات اليوم يرزح تحت نير التطرف ومظاهره داخل المجتمعات العربية واوجد مرتسماته السياسية والاقتصادية فأحزاب إسلامية واقتصاد ومالية إسلامية وهذا يعني تكريس الحالة الاستقطابية مع باقي المكونات الدينية التي إما ستقبل بالذوبان في بوتقة الأسلمة أو التمسك أكثر بخصوصياتها أي تكريس مظاهر التباين خوفاً من الاندثار وفي ظل تشتت الوعي الوطني ومشروعه الكفيل بصهر كل تلك المكونات في بوتقة الوطن وفي ظل تكثيف الخطاب الإعلامي باتجاه التشرذم والتفتت الديني وجدنا أنفسنا أمام ظاهرة جديدة تريد ابتلاعنا من خلال مفردات مأنوسة في الذاكرة الاجتماعية لأبناء هذه المنطقة ..
ولذلك فإن حنكة إدارة القيادة السورية للأزمة تتجلى في التعامل مع مفردات المشروع الاستعماري فما يواجهنا من حيث المنظومة المفاهيمية والقيمية لا بد من مواجهته من خلال تكريس المنظومة القيمية الوطنية وما يواجهنا على مستوى المعادلات الإقليمية كان لا بد من تشكيل مقابلات لها فكما كان الحلف المعادي خليجياً وتركياً كان المقابل حلفا سوريا عراقيا إيرانيا تضاف إليه قوى المقاومة في لبنان وما واجهنا على مستوى المعادلة الدولية من حلف أمريكي أوروبي قابله حلف بريكس ، وقد يعتقد البعض أن قضية المصالح تطرح نفسها هنا وبالتالي المسألة مسألة مصالح ولا تأثير للسياسة السورية متناسين أن وجود المصلحة لم يأت بمحض الصدفة بل هناك سياسة صنعت تلك المصلحة وهناك عقل استراتيجي حولها من مجرد مصلحة ظرفية مرحلية إلى مصلحة استراتيجية وأوجد لها سياقاً تتحرك ضمنه ومصالح أخرى تتلاقى معها فيعزز بعضها بعضاً .. وهنا يبرز تفوق العقل الاستراتيجي السوري في تشكيل معادلات العلاقات المقابلة للمعادلات المعادية وخلق منظومة المصالح الاستراتيجية التي تضمن قوة وثبات هذه المعادلات في وجه محاولات التغيير الممنهج من قبل الحلف المعادي ولهذا السبب تجلت قدرة سورية على تجاوز محيطها الإقليمي كركيزة للمواجهة من البوابة القومية العربية فقط وتشكيل ركائز مواجهة أخرى تتجاوز تغير واقع ودور المحيط الإقليمي العربي وخيانته وفي نفس الوقت مواجهة تحديات المشروع الصهيوني في المنطقة وفي سورية تحديداً .
لعل الأزمة بالنسبة لكثيرين مرحلة خسائر كبرى مادياً وبشرياً وربما استراتيجياً من وجهة نظر البعض لكنها في الحقيقة كلفة التحول السوري من دولة ترتبط بمحيطها الإقليمي والعربي وترتكز عليه إلى دولة متحررة من قيد العلاقة مع أنظمة هذا المحيط ولاسيما العربي بعد إنكاره للقومية العربية وانتمائه للصهيونية ومن دولة تتحرك في سياق الثابت من معادلات الأمن القومي في المنطقة ومعادلات الصراع العربي الإسرائيلي إلى دولة تغير الثابت الصدئ في هذه المعادلات لتجترح معادلات جديدة على مستوى منظومة الأمن القومي الإقليمي والدولي وتغيير عنوان صراعها مع إسرائيل فيغدو محور المقاومة بديل الطرف العربي الذي لم يعد موجوداً إلا كمصطلح في كتب تاريخ هذا الصراع ..
نعم هي سورية قد غيرت وجه العالم وغيرت معادلات المنطقة وأكدت أنها أيضاً تملك مفاتيح التحول من موقع الانفعال إلى موقع الفعل وأدوات تحويل عوامل التغير إلى عوامل التغيير الممنهج فمعيار القوة لم يعد محصوراً بامتلاك عوامل القوة الذاتية فحسب بل أيضاً امتلاك الحنكة في تشكيل معادلات يمكن في لحظة تاريخية معينة أن تخلق عالماً جديداً ينبثق من وحي الصراع المحتدم بين القوى الآفلة والقوى الصاعدة ، فقد أصبحت سورية جزءاً من العالم الجديد الذي سيلفظ العالم القديم ومنظومته الصدئة ومن يريد فعلاً مواكبة هذا التغير الكبير في العالم عليه أن يقدم أوراق اعتماده لأسياد العالم الجديد ويغير مفردات لغته التي كان كثيرون يرددونها من ورائه وفي الحقيقة لا أسهل من تعلم اللغة الجديدة في السياسة فمفردات اللغة القديمة المتعلقة بإسقاط الدولة السورية تصبح في القاموس الجديد الحوار مع الدولة السورية وما كان يعرف بالثورة الشعبية تصبح مجموعات إرهابية ترتبط بالقاعدة وما كان يعرف بجيش يقتل المدنيين يصبح الجيش الذي يقضي على القاعدة ويصبح الرئيس الأسد القائد الذي ينتصر على الإرهاب في الشرق الأوسط .. وعندها فعلا سيعلن أن العالم قد تغير .