«فصل في الجحيم» مونودراما موسيــــــقية
ملحق ثقافي الثلاثاء20 /12/2005 عبـد الفتاح قلعه جي في أعماق الذات الإنسانية، وسط عوالم من الغموض والوحشية وصور الفزع ونثارات الحكمة البعلية، وخيوط متقطعة من حكاية،
ترحل بنا حلا عمران وهي تقدم مقاطع من قصيدة الشاعر الخالدة رامبو (1854-1891م) "فصل في الجحيم" في مونودراما موسيقية، يتداخل فيها و يتراتب: الصخب والهدوء، الهذيان والحكمة، الألم والسخرية، السكينة والرفض لتشعرك في النهاية من خلال تلاوين الإلقاء والأداء، وموسيقا الجاز المجنونة أحياناً كثيرة، الغارقة في الصمت والأسى حيناً ، أن الجحيم ليس ذلك الذي تحدثنا عنه كتب الثواب والعقاب، وليس هو الآخرين كما يرى سارتر، وإنما هو ذلك الموجود في أعماق ذواتنا، والذي يتولد منه الهذيان والحكمة والجنون والغضب، واللغة الوامضة الرامزة الشفيفة المحترقة بنار معانيها وصورها ومكنونات المشاعر الغارقة في قيعان الجحيم الذاتي. فصل في الجحيم عرض دعا إليه المكتب الثقافي الفرنسي بحلب ومديرية الثقافة بحلب، أداء حلا عمران وموسيقى طارق الفحام وإخراج أمل عمران، وقد قدم مساء الخميس 8/12/2005على مسرح المركز الثقافي بحلب. الدراما الموسيقية نوع من أنواع التجريب، وهي غير المسرح الغنائي (الأوبرا أوالأوبريت) ومع توغل التجريب في مغامرات ومجاهل جديدة غير مكتشفة، ومع انحسار الفوارق بين الأجناس الأدبية والفنية، أصبح من الممكن تقديم قصيدة شعرية على خشبة المسرح مصحوبة بصياغات : حركات موسيقية، و وتكوينات حركية بالجسد الإنساني، تؤلف جميعاً بنية مسرحية متناغمة. فضاء المسرح خال إلا من كرسي من القش تجلس عليه المرأة (حلا عمران) بثوبها الأسود الطويل في انتظار بدء العرض، ومجموعة آلات الجاز وخلفها الموسيقيّ، يرقبان الجمهور، كأنهما يريدان أن يكونا جزءاً منه، أو الجمهور جزءاً من العرض، في حوار صامت. ثم تعلو الموسيقى صاخبة، قوية، مفزعة،كأنها تحملك في مركبة تعبر نهر الموت والفزع وتقودك عبر هذه الصور الموسيقية الموحشة إلى أعماق جحيم فضاؤه الذات الإنسانية. كان لا بد لـ (حلا) التي بدأت بأداء هذه القصيدة الجهنمية بشيء من الإلقاء التقليدي ، كأنك في أمسية شعرية خلتها ستطول.. كان لابد لها أن تعيد الكرة لتبحث عن نقطة عبور إلى الاستغراق الصوفي لتقرع بوابات المجهول وتغامر في أنهار جهنمية زاخرة بالصور المتداعية بغزارة والدالة على موهبة بصرية خارقة لدى رامبو لا يمكن إلا أن تعيدها إلى ما يسمى بالتراسل السحري المتمرد على منطق العقل وخداع الحواس، ليصل إلى لغة الروح، لغة تعرض حميّا الوجود الروحي . لقد اختط رامبو طريقة شعرية جديدة يسميها كيمياء الفعل ، وهو في شعره وبخاصة في فصل في الجحيم يقدم رؤى سحرية ذات قوة مذهلة وجمال غريب وفتنة غنائية. المرأة التي قال لها بعلها الأرضي حين حدثته عن الحب وروابطه: إن الحب يجب أن يبتكر، وأن المرأة تبحث في الزواج عن مكان آمن تستريح فيه، وهنا لا يمكن أن يعيش الحب، هذه المرأة تتجه إلى بعلها السماوي الذي لا يرفض اعترافاً من شقية آثمة ، وتبث هذا البعل الجهنمي - السماوي همومها وأحزانها وأسقامها، وهي في الحقيقة اعتراف الشاعر الرجيم نفسه (رامبو) الذي جعل نفسه وقوداً للنار يأتي على لسان العذارى أو على لسان هذه المرأة في العرض المسرحي. " أنصتوا إلى اعتراف رفيقات الجحيم: "أيها البعل السماوى، أيا ربي، لاترفضّ اعتراف أتعس خادماتك. إنى ضالة. إنى ثملة. إنى نجسة. تباً لها من حياة! وفيما بعد سأعرف البعل السماوي! لقد ولدت خاضعة له - أما الآن، فالبعل الآخر قد يضربني!" ثمة صراع ومفارقة في أعماق الذات بين الخير والشر، الاثم والخطيئة، كي يتحرر الجسد من أدرانه وتصل الروح إلى دفء الحقيقة وسعادة الإيمان المطلق . يقول على لسان رفيقة الجحيم: "إنى أمَةٌ البعل الجهنمي ذلك الذى أهلك العذارى الطائشات، هو ذلك الشيطان بالذات، ما هو بطيف وما هو بشبح، ولكنى أنا التي فقدت الرشد، أنا اللعينة الهالكة في نظر العالم لن يستطيع أحد قتلي.. كيف أصفه لكم لقد فقدت حتى القدرة على الكلام.. إنى في حداد، أبكي في هلعٍ! نسمة من الهواء، ياربي، لوسمحت، من فضلك ". ولكن ألا يمثل البعل الأرضي صوت رامبو الداعي إلى ابتكار الحب من جديد بعد الخراب المريع الذي حلَّ بحديقة الجمال تحت صليل السيوف وجحيم الحروب والانقسام الطبقي وتفجر الثورة الصناعية في أوربا؟ هذا الحب النقي المبتكر أيضاًُ هو الذي دفع رامبو إلى أن يقف إلى جانب الكادحين والبؤساء في مواجهة جميع أنواع الاستغلال الصناعي والعسكري. يقول : "لا أود بعثرة كنزي أتريدون أغنية زنجية، حوريات ترقص؟ أتريدون أن أختفي، أن أغطس بحثاً عن الخاتم؟ أتريدون؟ بوسعى أن أصنع ذهباً، وأدوية شافية. فلتؤمنوا بى فالإيمان يعزّى ويهدى ويشفي. تعالوا جميعاً - حتى الأطفال لأعزيكم، ولأبذل لكم قلبى - القلب الرائع، أيها المساكين أيها العمال، لست أطلب صلوات، تكفيني ثقتكم لأسعد ..ولتذكروني، حتى لاأتحسر على العالم" عندما رفضها البعل الأرضي، ورفض مفهومها عن الحب قائلاً "الحب يجب أن يبتكر" تتناول المرأة ( حلا) الميكرفون كما المطربات، من زاوية المسرح، فتحسب أنها ستغني، لأنه هكذا يفعل المطرب عادة، ولكنها لا تغنّي حسب المفهوم الأدائي والنغمي للغناء، وإنما تقدم تلاوين ساخرة هستيرية مجنونة لكلمة (يبتكر)، مقلبة هذه الكلمة على جميع وجوهها، معيدة صياغة أحرفها تراتباً وحذفاً وزيادة ، فهي : يرتكب ، ويرتبك. وكرب، ورب، وربي..بطيئة ساخرة حيناً، متسارعة غاضبة حيناً آخر، بل يصل التسارع حيناً إلى حد الأداء الهستيري الذي تغيب فيه الأحرف ومعالم الكلمة.. وهكذا مركزة ومبرزة ومجسدة لكيمياء الكلمة. إذا كان عامة من حضر يبحث عن مبرر لاستعمال الميكرفوني في النصف الثاني المتصاعد من هذا العرض، ويسأل عن معنى هذا الفاصل الطويل الصاعق من الأحرف المتناثرة والمتراكبة، فإنني وجدت استعمال الميكرفون عضوياً في هذا الجزء الأخير من العرض، وأن هذا الهذيان هو غناء ليس كالغناء، غناء في أعماق الجحيم أمام البعل السماوي، إنه معادل تشخيصي لرؤى رامبو الجحيمية الذي يقدم تجارب في غاية الرمزية وصوراً سوريالية تتداعى من اللاوعي بشكل حر ، يدعو فيها إلى التطهر من الرذيلة والآثام والخيانة، وسبيله إلى ذلك رفض الواقع البليد والتمرد عليه ليصل إلى الحلم، ثم التمرد على الحلم نفسه وعلى اللاوعي ليصل إلى عتبات الروح، ويصلي في ذلك الفضاء الروحي وحيداً من أجل سعادة العالم. بالرغم من الفقر الواضح في الإضاءة وخطتها، والاعتماد على التعبير بالإلقاء أكثر من التعبير بالحركة والأداء الفيزيقي للجسم، إلا أن مخرجة العمل أمل عمران تعاملت مع روح النص الشعري بفهم وذكاء، ورسمت موسيقى طارق الفحام صوراً موسيقية حارةً موازية ومتكاملة مع مناخات النص ، واستطاعت حلا عمران بتقانتها وصوتها المتميز وتلاوين إيقاعاتها، وفهمها العميق لروح الشعر أن تغوص من الوعي إلى اللاوعي حتى تصل إلى الاستغراق الصوفي في الدور.
|