تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الشاعر محمد مهدي الجواهري وقصيدته « دجلة الخـيـــر»

ملحق ثقافي
الثلاثاء20 /12/2005
اسكنــــدر نعـــــمة

لعلَّ نهر دجلة الذي يحلو لبعضهم أن يسميه بحراً.

بما يحمله من إيحاءٍ ومعانٍ واسعة الطيف والألق ،لم يخالط وجدان شاعر عربي، ويغذّي مفردات قصائده ونبضها، كما خالط عاطفة الشاعر محمد مهدي الجواهري ورؤاه الشعورية والفكرية.. ويتضح ذلك جلياً في رسم الجواهري من خلال قصيدته« دجلة الخير» ملامحَ ما يدور الآن في العراق، وكأنه كان يراه ويتنبّأ به،ويشهدُ عليه نهر دجلة. ذلك النهر النائم على ألحان ليالي أبي نواس، ووشي حضارة الرشيد وثقافة المأمون وجبروت المعتصم وأنغام الموصلي.. يبدأ الجواهري قصيدته «دجلة الخير» وكأنه يناجي محبوبته مفترضاً بل مؤكداً أن«دجلة» محبوبة رائعة الأنوثة، ليّنة الأعطاف: حيّيتُ سفحكِ عن بعدٍ فحيّيني يادجلةَ الخير ياأم البساتين حيّيتُ سفحكِ ظمآناً ألوذُ به لوذَ الحمائم بين الماء والطّين يعترف الجواهري،إذن.. بأنّ ظمأه الأبدي، لاتجليه إلاّ أمواه« دجلة» لأنه ظمأ من نوع آخر. إنه ظمأ الشوق والبعد والاغتراب. ظمأ الظلم والقهر، ظمأ الحب والذكريات. ظمأ الحرية: يادجلةَ الخير يانبعاً أفارقه على الكراهة بين الحين والحين إني وردتُ عيون الماء صافيةً نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني ويزداد عطشُ الجواهري إلى الماء، وحنينه إلى الأرض.حتى يغلبه الغياب عن اللحظة الحياتية، ويدخل عالم اللاوعي، فنجده يتمنّى من أعماقه أن تكون«دجلة» النهر الأنثى بعمقها واتساعها قبرهُ. وأن يكون شراع قاربها كفَنَه. ذلك الشراع الذي تعصف به الرياح، كما تعصف الأعاصير السياسية بمصير الشاعر سواء في الوطن أم في المغترب: وأنتِ ياقارباً تلوي الرياح به ليَّ النسائم أطرافَ الأفانين وددتُ ذاك الشراعَ الرخصَ لو كفني يحاكُ منه غداة البين يطويني إن هذا التوحّد مع مفردات «دجلة» ليس له من مبرر سوى غلبة اليأس السياسي على نفس الجواهري، وإحساسه الشديد بالألم والحسرة والخوف مما هو قادم: يادجلة الخير قد هانت مطامحنا حتى لأدنى طماحٍ غير مضمون الغاسلُ الهمَّ في ثغرٍ وفي حَبَبٍ والملبسُ العقلَ أزياء المجانين ياسكتةَ الموت ياأطياف ساحرةٍ ياخنجرَ الغدر ياأغصان زيتون إلا أن ذلك اليأس السياسي ما يلبث لدى الجواهري أن يتحول إلى نوع من العزيمة الوطنية والحب العميق لمحبوبته« العراق» أرضاً وشعباً.. فيمتطي صهوة المجد ليمجد« محبوبته» ويتغنى بمحاسنها وأطياف حضارتها الضاربة في العمق التاريخي. ليشاركها ما يعتريها من شحوب وألم وضياع. وليحاول أن يمسح عن وجهها غبار مهازل الدهر، والمآسي بل ما يخبئه لها الحاضر- المستقبل الذي لايبشّر بخير: يادجلة الخير ما يغليكِ من حَنَقٍ يغلي فؤادي، وما يشجيكِ يشجيني ياأمَّ تلك التي من ألفِ ليلتها للآن يعبق عطرٌ في التلاحين ماإن تزال سياط البغي ناقعةً في مائكِ الطهرِ بين الحين والحين ولعل القصيدة في مسارها وانسيابها الشعري الفني الأصيل. تضعنا أمام تساؤلات فنية وفكرية عميقة. نقرأ في أبياتها شكلاً من أشكال الإجابة الضمنية عن أسئلة غير مقروءة ،ولكنها أسئلة تنضح بها الكلمات، وتشي بها الصور التي تملأ جنبات القصيدة وتلونها.. لقد أسرت« دجلة» المسجونة بين الرصافة والكرخ. أسرتْ لشاعرها بمعاناتها، عبر لغة مليئة بالنجوى والأسرار فيجيبها مناجياً: أدري على أيِّ قيثارٍ قد انفجرت أنغامكِ السمرُ عن أنّات محزون أدري بأنكِ من ألف مضت هدراً للآن تهزين من حكم السلاطين تهزين من خصب جنّات منثرةٍ على الضفاف ومن بؤس الملايين يرونَ سودَ الرزايا في حقيقتها ويفزعون إلى حدسٍ وتخمين ترى.. أليس في ذلك دليل واضح على أن للجواهري بعداً سياسياً وقوة حدسٍ تمكناه من اختزال الزمن، وامتلاك الموهبة على صياغة أحداث المستقبل القريب-البعيد.. ألسنا نرى ونحسّ بأن الجواهري يحدث« دجلاه» ويسرُّ إليها بما يعيشه العراق الآن من خوف وتوجس.. أليست قصيدته« دجلة الخير» ونجواه فيها، شكلاً من أشكال الإفضاء بما يجري في العراق الآن من اقتتال وتخريب وإرهاب وفتنة وعدوان وطائفية.. وفقدان لأبسط أشكال الكرامة الإنسانية.. أليست قصيدته قراءَة في كفّ المستقبل: يادجلةَ الخير كان الشعرُ مذ رسمت كفُّ الطبيعة، لوحا سفرِ تكوين‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية