|
نزار قباني.. بين البيتوتية و(الدونجوانية)! ملحق ثقافي
أسوق هذه المقدمة للوقوف على الاحتفالية التي قدمها المخرج باسل الخطيب كعمل درامي، احتفاء بشاعر الوطن والأمة نزار قباني، والتي حاول من خلالها اكتشاف الشاعر، مرة أخرى،وفق رؤيته الخاصة، وكنت تابعت كمشاهد وعلى امتداد ثلاثين حلقة مسلسل نزار قباني الذي تم عرضه خلال شهر رمضان على أكثر من قناة فضائية وأرضية.. وكان يمكن لهذا العمل الدرامي أن يرقى إلى مستوى قامة الشاعر الإبداعية لولا بعض المغالطات والمطبات التي يمكن لأي مشاهد مهتم بحياة وشعر القباني أن يسجلها على هذا العمل الذي ابتدأ بداية قوية،وبفنية عالية، استطاعت أن تقدم لناصورة الشاعر في طفولته والتي جسدها الطفل أيهم الخطيب بموهبة طفلية لافتة للانتباه حقا..قبل أن ينتقل إلى مرحلة الشباب والتي جسدها،ببراعة فائقة الفنان تيم حسن.. كما استطاع المسلسل الإلمام بكثير من التفاصيل الصغيرة وبالعديد من العوامل الأسرية والبيئة والاجتماعية التي ساهمت مجتمعة في صنع هذا الشاعر المتفرد والخارج عن السرب.. قبل أن ينتقل إلى مراحل لاحقة في حياة الشاعر، وعلى الأخص المرحلة الدبلوماسية (5491-6691) ومنها المرحلة الرمادية، كما يدعوها نزار في لندن (2591-5591) والمرحلة الصفراء (بكين 8591-0691) والتي مر عليها المسلسل مرور الكرام مع أنها من المراحل الهامة في حياة نزار وشعره، وكان أبرز آثارها مجموعته الشعرية (يوميات امرأة لا مبالية) الصادرة في بيروت عام 8691،لتأتي بعدها المرحلة الوردية (إسبانيا 2691-6691) قبل أن يقدم استقالته، بشكل نهائي، من العمل الدبلوماسي ويستقر في بيروت، كشاعر وناشر معا، ليعيش فيها أجمل سنوات عمره بعد أن بلغ قمة مجده الأدبي وطبقت شهرته الآفاق.. قبل أن تنفجر الحرب الأهلية هناك وتودي بحياة زوجته الثانية بلقيس الراوي والتي أنجب منها (زينب وعمر) حيث غادرها إلى لندن ليحيا ماتبقى له من سنوات في عاصمة الضباب، قبل أن يعود مسجى في تابوت إلى مدينته الأم، ومسقط رأسه دمشق التي أنشد فيها أروع قصائده ويدفن في مقابرها بجوار ولده الشاب الراحل توفيق قباني (9491-3791) وكنا لاحظنا بعض الاستطالات والاستغراق في تفاصيل كثيرة في حلقات المسلسل الأولى، كإصابة الطفل نزار بجرح في عينه، مع أن هذه الإصابة كانت عابرة كما يقول الأديب والصحفي الراحل عبد الغني العطري: («2» حيث نقل نزار على عجل إلى مستوصف قريب وأسعف على الفور وكان الجرح بعيدا عن العين الزرقاء والفاتنة). وكانت تجدر الإشارة إلى ذلك الأديب الكبير (العطري) وهو زميل معتز، شقيق نزار الكبير ورفيقه في الصف في الكلية العلمية الوطنية، وفيها تعرف إلى نزار مع أخويه معتز وصباح.. وكان العطري قد انتقل فيما بعد من مقاعد الدراسة إلى منصب رئيس تحرير مجلة الصباح الأدبية والتي ظهرت على صفحاتها قصيدة نزار « نهداك» في الربع الأخير من العام 1491، وتوالت بعدها قصائد نزار في الصباح وفي غيرها من الصحف والمجلات قبل أن تصدر مجموعته الشعرية الأولى (قالت لي السمراء) عام 4491م. ومع ذلك كنا نأمل لو إن المسلسل استمر بتلك السوية الفنية العالية والممتعة.. إذ سرعان ما تحول في حلقاته اللاحقة، بدءاً من استقالة القباني من عمله الدبلوماسي واستقراره في بيروت إلى أواخر أيامه في لندن، إلى عمل رتيب، وممّل أحياناً. وبدا الإيقاع بطيئاً إلى حد السأم في كثير من الحلقات. دون أن يعبأ ببعض الأحداث والمنعطفات الهامة التي عصفت بحياة وشعر الشاعر وعلى رأسها حرب لبنان الأهلية واجتياح القوات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية ودخولها العاصمة بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية منها، وبروز المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية التي غنّى فيها نزار قصائد كثيرة.. وما تعاقب من جنبات وانكسارات في حياة الأمة بوجه عام (صلح السادات المنفرد مع إسرائيل- اتفاقيات اوسلو- حرب الخليج الثانية...). إن سيرة حياة هذا الشاعر الكبير هي، في الوقت ذاته،سيرة حياة وطن، وسجّل كفاح شعب ونضالات أمة. ونحن نعلم تماماًكم كان نزار متعباً بعروبته، ولصيقاً بوجدان شعبه وأمته. ومن العبث أن نفصل ما بين حياة الشاعر وحياة وطنه بحال من الأحوال. على أن الملاحظة الأهم والأبرز كانت في تلك الصورة التي ظهر فيها نزار قباني وكأنه( دونجوان) عصره، ولاهمّ له سوى الانتقال من امرأة إلى أخرى وكتابة الشعر في أي مكان وفي أي وقت، وكأنه يغرف أشعاره من بحر، وكان نزار، كما يقول الأديب ياسين رفاعيية« لا يكتب أشعاره إلا في غرفة مغلقة، مسدلة الستائر». ولا أعلم كيف تنطبق صفة الشاعر (البيتوتي) التي أطلقها نزار على نفسه، والتي أشار إليها المسلسل بدوره، مع صفة (الدنجوانية) التي ليست في طبع الشاعر - كما يقول - ولا في تركيبه «والذين عرفوني عن قرب يعرفون أنني في كل علاقاتي العاطفية كنت ملتزما مبدأ الصدق مع نفسي ومع من عرفتهن. إن كلماتي كانت دائما بحجم عواطفي، ولم أقل لامرأة أنت حبيبتي إلا إذا كنت أعني ما أقول (3)» لقد غابت عن نزار (الدونجوان) كم لمسنا من خلال هذا العمل صفة الزوج، والأب الحنون والمحب لأطفاله، ومن الملاحظ، بل ومن المستغرب إلى حد الدهشة، أن يقدم لنا المسلسل نزارا في إحدى أماسيه الشعرية وهو يصف زوجته الأولى في قصيدته ( هرة) باللؤم والزور والاحتيال وغياب العقل والشهوانية!! فهل من اللائق أو المعقول أن يقف شاعر ما - أي شاعر- لينشد في زوجته التي أظهرها المسلسل جالسة في الصف الأمامي، في الصالة، بين جموع الحاضرين لسماع شعره قصيدة مطلعها: «أكرهها وأشتهي وصلها وإنني أحب كرهي لها» ومنها قوله: « عين كعين الذئب محتالة حامت أكاذيب الهوى حولها قد سكن الشيطان أحداقها وأطفأت شهوة عقلها»؟! وما زاد الطين بلة - كما يقولون - تلك الأمسيات الشعرية الكثيرة، والمتلاحقة، والتي قلما خلت منها حلقة من حلقات المسلسل، وقراءة القصائد بطريقة غرائبية أحيانا ذهبت إلى حد ( تكسير) الكثير من أبياتها، فجاءت القصائد ملأى بالأغلاط العروضية والعيوب الشعرية ( كالإقواء مثلا) والتي يصعب حصرها، وكلها أغلاط ما أنزل الشعر بها من سلطان ! ومن المؤسف أن هذا العمل الدرامي لم يستطع أن يفجر الطاقات الفنية والإبداعية التي يمتلكها الفنان سلوم حداد، بعد أن انحصر دوره في كثير من الحلقات بدور الراوية للأحداث، فكان اداؤه بارداً ومحايداً إلى حد بدت فيها (الكاميرا) وكأنها البطل الرئيسي في نقل المشاهد مع غياب الحوار الذي هو من أهم عناصر العمل الدرامي. ولا أريد أن أمضي أكثر في الحديث حول ملاحظات وعثرات فنية اخرى تمت الإشارة إلى بعضها في أكثر من مقال صحفي ولأكثر من كاتب، وأكتفي بالقول أخيرا كي لا نبخس هذا العمل بوجه عام حقه: إن أجراً كبيراً للمخرج باسل الخطيب على ما بذله من جهد لإخراج هذه الاحتفالية إلى النور، ولو أنه استطاع أن يتلافى بعض تلك الملاحظات لكان له أجران. هوامش: 1- قصتي مع الشعر، سيرة ذاتية، منشورات نزار قباني - بيروت - صادرة في عدة طبعات. 2- عبد الغني العطري - عبقريات من بلادي - دار البشائر - دمشق 5991. 3- قصتي مع الشعر - نزار قباني.
|