استعراض سريع للوضع الدولي، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى الآن، يوضح التخبط الذي أصاب صنّاع القرار في الولايات المتحدة الأميركية، نتيجة الزوال السريع للخطر «الشيوعي» الذي استمروا يلوحون به طيلة عقود متتالية، لفرض هيمنت الولايات المتحدة على أوروبا الغربية واليابان، بعد أن هيمنت على معظم مستعمراتها السابقة لأن زوال هذا الخطر كان يعني لهم بداية نهاية عصر هيمنة الولايات المتحدة ليس فقط على أوروبا واليابان، بل وعلى العالم بأسره حيث إن هناك إحصائيات أميركية تشير إلى أن سحب القواعد الأميركية من أوروبا واليابان سيمكن دولاًً مثل ألمانيا واليابان من أن تصنع السلاح النووي والصواريخ الاستراتيجية في غضون سنوات معدودة وهذا يعني إمكانية بروز دول قادرة على منافسة الولايات المتحدة على الساحة الدولية وهذا ما يتعارض مع استراتيجية الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم والتي تخطط لها منذ أكثر من مئة عام.
لذلك أخذت الولايات المتحدة ومنذ انحلال الاتحاد السوفييتي، تبحث عن عدو وهمي، لتحوله إلى حقيقة، كي تعوض عن انحلال الاتحاد السوفييتي، وافتعلت حروباً أهلية في البلقان، كي تبرر ليس فقط الحفاظ على حلف الناتو، بل وتوسيعه نحو الشرق ليشمل الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي ولما كانت الشرعية الدولية تعوق تحركها في الوقت الذي أخذت حركة الاندماج الاقتصادية والسياسية لأوروبا تعطي ثمارها، وترافق ذلك مع وصول الرئيس بوتين إلى الرئاسة في روسيا، وبدئه في إعادة النظر في أولويات السياسة الداخلية والخارجية لروسيا، كانت التفجيرات في نيويورك (والتي تقف وراءها بالتأكيد دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، بغض النظر عن المنقذ المباشر لها)، لتحررها نهائياً من الشرعية الدولية، ومن كل القواعد الأخلاقية والقانونية، التي تعوق تحركها وتكون بذلك قد وجدت في الإرهاب الدولي العدو المنشود الذي تبحث عنه.
لذلك سارعت الولايات المتحدة لاحتلال أفغانستان والعراق، لتعود بذلك إلى السياسة الاستعمارية التي سادت قبيل الحرب العالمية الأولى وروج لها روبرت كاغان أحد أيديولوجيي العودة لهذه السياسة، لكن المواجهة العنيفة التي وجدتها الولايات المتحدة من قبل المقاومة الوطنية والإسلامية المسلحة، أدخلتها في مستنقع مازالت تتخبط به حتى يومنا هذا ولا أحد يعرف متى وكيف ستخرج من هذا المستنقع.
فشلها الذريع في هاتين الدولتين، دفعها للإيعاز لإسرائيل لشن عدوان على لبنان، لضرب المقاومة الوطنية والإسلامية ونزع سلاحها ليكون لبنان منطلقاً لتأسيس «شرق أوسط جديد.. كبير.. الخ) لتغطية فشلها ولإعادة ترتيب المنطقة، بما يتناسب مع أهدافها لكن الهزيمة الكبرى التي منيت بها إسرائيل في صيف عام 2006، ومن ثم فشلها في القضاء على حماس ونزع سلاحه في عدوانها الأخير على غزة أواخر العام الماضي - بداية العام الحالي، كانت الحلقة الأخيرة في سلسلة الهزائم العسكرية التي لحقت بالولايات المتحدة حول العالم، وبالتالي فشلها في الحفاظ على عالم أحادي القطب بزعامتها، هذا ما دفع الدول الكبرى العالمية والإقليمية لإعادة ترتيب أوراقها، بما يتناسب مع الواقع الجديد، لتأخذ مكانها على الخريطة الجيوسياسية الدولية الآخذة في التبلور.
لولا الهزائم التي ألحقتها مقاومتنا الوطنية والإسلامية المسلحة بالولايات المتحدة التي لم يعد بمقدورها أن تفتح أية جبهة مواجهة عسكرية في أي بقعة من العالم، لم يكن باستطاعة روسيا أن ترد هذا الرد الحاسم والقوي على العدوان الجورجي على أوسيتيا الجنوبية، وأرسلت رموز أسلحتها الاستراتيجية إلى المناطق المجاورة للولايات المتحدة لتعلن عن عودتها القوية إلى الساحة السياسية الدولية وأن مصالحها منذ الآن وصاعداً هي «خط أحمر» يمنع تجاوزه.
ولولا الفشل العسكري الكبير الذي لحق بالولايات المتحدة لما عادت فرنسا إلى القيادة العسكرية لحلف الناتو في هذه الفترة بالذات بهدف تحويله لاحقاً إلى قوة عسكرية أوروبية تكمل القوة الاقتصادية لتستطيع بذلك أوروبا بقيادة فرنسا وألمانيا إبعاد الهيمنة الأميركية على أوروبا وعلى الحلف ولتشكل قطباً دولياً هاماً له مكانته على الخريطة الجيوسياسية الآخذة بالتشكل بعد تراجع الدور الأميركي في العالم.
كما أن ازدياد التقارب الصيني الروسي استعداداً لمواجهة المرحلة القادمة، التي تشهد تراجعاً واضحاً للدور الأميركي على الساحة الدولية، ليس بعيداً عن ذلك. فلقد عقدت في عام 2008 خمسة لقاءات قمة بين رؤساء الدولتين، وبدئ في 29 كانون الثاني من العام نفسه العمل في الخط الهاتفي الساخن بين وزيري الدفاع في البلدين والذي يعتبره الخبراء بداية عملية التعاون السياسي العسكري الأوثق بين البلدين لضمان الاستقرار في أوراسيا والعالم.
وأخيراً الحملة الكبيرة التي تقوم بها دول أميركا اللاتينية ضد المصالح الأميركية واستئناف كوريا الشمالية لبرامجها النووية والعسكرية، ورفضها العودة إلى اللجنة السداسية هي نتيجة غير مباشرة لانتصارات مقاومتنا المسلحة.
من هنا نستنتج أن الانتصارات التي حققتها هذه المقاومة لم تكن فقط سبباً مهماً في نهاية أحادية القطب في العالم بل وعاملاً أساسياً استثمرته دول العالم الكبرى والصغرى ليس فقط للتخلص من هيمنة الولايات المتحدة بل وفي تحقيق مصالحها الاستراتيجية أيضاً.
أما بعض العرب فلم يكتفوا بأنهم لم يستثمروا هذه الانتصارات ويبلوروا موقفاً عربياً موحداً لاسترجاع بعض من حقوقنا المشروعة بل أخذوا يحاولون إجهاض هذه الانتصارات على المستوى العربي ويجففون كل قنوات الصمود لهذه المقاومة.