والذي لفت نظري بل وشد انتباهي في هذا المؤتمر أن الإخوة في الخليج تنبهوا جيداً إلى الخطر الثقافي واللغوي خاصة، الذي كان يحس به المواطن العربي لدى زيارته ذلك الجزء العزيز من وطننا العربي.
وقد جاء البيان الختامي وتوصياته على درجة عالية من التبصر والشعور بالمسؤولية التاريخية، ولعل من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى ثلاث حقائق أساسية رسخها ذلك البيان الهام:
الأولى: الارتباط الوثيق بين اللغة العربية والهوية العربية، فقد جاء في التوصيات: الاهتمام باللغة العربية كوعاء للثقافة المشتركة ومدخل أساس حاضن للهوية.
وتحمل هذه العبارة رداً على كل من حاول التفريق بين الهوية واللغة، ذاهباً إلى أن هويتنا هي طبيعة فهمنا ومواقفنا وسلوكنا تجاه الأحداث والقضايا، نافياً أن تكون اللغة أساساً أو مدخلاً أساسياً حاضناً للهوية، كما جاء في البيان. لقد أكد المؤتمر الحقيقة الموضوعية والعلمية وهي ارتباط الهوية باللغة، أما ربط الهوية بطريقة الفهم والمواقف والسلوك فهو ربط ما بين ثابت ومتحول، وهذا من المحال، ذلك أن طرائق أبناء الأمة وأساليبهم في فهم القضايا ومحاكمتها والموقف منها متبدلة متغيرة بتأثير الخلفية المعرفية، والمصلحة وزاوية الرؤية، وهذا أمر مشروع، أما الهوية فهي خاصية ثابتة لدى أبناء الأمة، قد يكون للواحد منا مواقف وآراء وتوجهات متعددة ومتباينة، ولكن لا يمكن أن يكون له إلا هوية واحدة فالهوية عَلَمٌ على جماعة الأمة، ولا تتجسد هوية الأمة في شيء تجسدها في لغتها.
لقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن التصنيف القومي للأمم والقائم على وحدة اللغة هو أثبت أشكال التصنيف لأنه من سنن الوجود.
الثانية: الارتباط الموضوعي بين الحفاظ على الهوية واللغة العربية وبين (تعريب التعليم) أي جعل التعليم - في كل مراحله- باللغة العربية وقد عبر عن هذا الارتباط العضوي الموضوعي ما جاء في البيان من أن المشاركين «حددوا أولوية اللغة العربية» كأداة للتعليم والتعامل، وأهمية المنظومة التربوية والتعليمية كقناة لتعزيز الهوية بثوابتها.
ولهذه العبارة أهمية استثنائية تستمدها من أن المؤتمر قد عقد بمشاركة مسؤولين وأكاديميين وفي مقدمتهم السيد الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي ومعروف أن لغة التعليم الجامعي في الكليات العلمية في دول الخليج العربية ما زالت هي اللغة الأجنبية، وطالما كانت الإشارة إلى تعريب التعليم في الخليج لا تروق لكثير من الأكاديميين على الرغم من قرار القيادة العليا لمجلس التعاون الخليجي في مسقط عام 1985 الذي نص على تعريب التعليم الجامعي وتوفير مستلزماته.. نقول: هل أدرك إخواننا الأكاديميون المتحفظون على تعريب التعليم أن التعريب ليس وسيلة لمواكبة العصر وتوطين العلم فحسب، بل هو أيضاً أهم وسيلة لحفظ هوية الأمة وثقافتها.
ولا تخفى دلالة عبارة البيان بأن تكون العربية «أداة تعامل» لأن بعضهم يسهم عن قصد أو غير قصد في تهميش العربية حتى في التواصل اليومي والحديث الشفاهي، وكثيراً ما يعجب الزائر العربي إلى بعض دول الخليج العربي من أنه قد لا يستطيع طلب وجبة في مطعم إذا كان لا يعرف سوى العربية، وهو العجب ذاته الذي يتملكه عندما يرى أن كثيراً من أسماء المحال واللافتات التي كتبت بغير العربية وفي عاصمة اللغة العربية وعرينها دمشق، أويتناهى إلى سمعه أن جامعات خاصة في عاصمة العروبة تدرس بغير العربية.
الثالثة: أن مسألة (تعريب التعليم) هي مسألة سياسية في المقام الأول، والدليل على ذلك أن هذا البيان صدر عن المؤتمر الأول (للتنمية السياسية) في الخليج العربي.
ونأمل أن تتنامى الصحوة اللغوية التي أطلقها السيد الرئيس وتبنتها قمة دمشق لتشمل أرض العروبة كلها، إذ (لا أمة دون هوية ولا هوية دون لغة).
عضو مجمع اللغة العربية دمشق