كما لم يكن لعملية السلام أن ترى النور لولا الجهود المضنية التي بذلتها إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب, والضمانات الأكيدة والموثقة, والمواقف الواضحة, والدلالات الأوضح, والاجتماعات العديدة التي عقدت بين الأطراف المعنية عبر الوسيط الأمريكي (النزيه), وتم أرشفة محاضر جلسات ماراتونية اشتُهر بها الرئيس الراحل حافظ الأسد بسبب حرصه على السلام وعلى أهمية التفصيلات الدقيقة التي تم الاتفاق عليها, وبلورة المواقف, وتحديد المسؤوليات, التي أدت فيما بعد إلى عقد مؤتمر مدريد للسلام..
وبسبب من مراوغة الاسرائيليين وتهرّبهم توقفت المحادثات خلال عقد من الزمن أكثر من مرة, واستؤنفت أكثر من مرة ولم يكن استئنافها في أيّ من توقفاتها على حساب ما تم إنجازه في الجولات السابقة, لا بل كان التوافق على أن أيّ خطوة تُخطى لا بدّ وأن تؤسِّس للخطوة التالية.. وهكذا..
وفي واحدة من توقّفاتها لم تُستأنف المحادثات بعدها, إلاّ عندما أبلغ وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك الرئيس حافظ الأسد -رحمه الله- أنه صار بحوزة الإدارة الأمريكية وثيقة يتعهد فيها إسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل آنذاك الانسحاب التامّ من الجولان السوري المحتلّ حتى خطوط الرابع من حزيران عام 1967 مقابل إقامة علاقات سلمية مع إسرائيل..
وبعد فترة من الوقت توقفت أيضاً, وتوقفاتها كانت بفعل ممارسات المسؤولين الإسرائيليين المتعاقبين, ولاسيّما عندما اكتشفوا الجدّية في الخطوات المقطوعة, وعندما وجدوا أنفسهم أمام استحقاق السلام, الذي من شأنه إعادة الأرض المحتلة إلى أصحابها.. ولم تستأنف المحادثات مجدداً إلاّ عندما أعلن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون من البيت الأبيض عن استئناف المفاوضات من حيث توقفت..
واستؤنفت مجدداً.. وقاد الرئيس الأمريكي كلينتون بنفسه عدداً من الجلسات, ويومها اكتشف الأمريكيون كم هو حجم المراوغة والتهرب الإسرائيلي, وكان الطاقم الأمريكي (كبالع الموس), لا هم قادرون على كشف الحقائق للرأي العام العالمي, ولا هم قادرون على الصمت المطبق, والمسؤولية الكونية تحاصرهم, ودورهم كراعٍ نزيهٍ يهدّد مصداقيتهم والنزاهة معاً.
ويومها غادر الإسرائيليون مقرّ المحادثات على عجل, دون النظر إلى الوراء, وغابوا خلف دباباتهم والجرافات التي استأنفت عملها على الأرض الفلسطينية وحتى اليوم..
لقد أردنا من هذا السرد السريع إعادة تذكير الذين تكلّست ذاكرتهم, وانتابها الصدأ بفعل الزمن وبفعل غبار الجرافات الإسرائيلية, بأن سورية لم تتردد يوماً إزاء عملية السلام, ولم تكن سبباً في يوم من الأيام بوقف المحادثات, وإنما كانت إسرائيل هي التي تنقضّ على الفرص كلّما لاحت, وتهدر الوقت كلّما سنح, وتبدّد الإمكانية كلّما توفرت..!
فالعالم كلّه وفي المقدمة الإدارة الأمريكية - والوثائق تتحدث - يعرف خريطة التحرك السياسي السوري القائمة على الثوابت التي تأسست قبيل عقد مؤتمر مدريد, وعلى الشرعية الدولية, وعلى النتائج التي أسفرت عنها محادثات عقد من الزمن مليء بالجهد والمتابعة وتثبيت النقلات والخطوات.. وتوثيقها والاستناد إليها..
(فالهمروجة) التي أعقبت تصريحات (تيري رود لارسن) بعد لقائه الرئيس بشار الأسد, وكذلك التي أعقبت محادثات الرئيس الأسد والرئيس حسني مبارك في شرم الشيخ لا تمسّ الموقف السوري الثابت من عملية السلام والقائم على التمسك بالإنجاز الذي تحقق, وهو ليس إنجازاً سورياً فحسب, وإنما إنجاز أمريكي شارك فيه الإسرائيليون, وأصبح ملكاً للرأي العام العالمي وملكاً للشرعية الدولية وجزءاً من تطبيقاتها السلمية, باعتبار هذه التطبيقات سابقة في الصراع العربي - الإسرائيلي المزمن وفي محاولات إيجاد الحلول السلمية له..
لقد قابل العالم كلّه رغبة سورية في إحياء عملية السلام واستئنافها بالكثير من الاهتمام والجدية والحرص والمتابعة, التي اصطدمت جميعها باللامبالاة الإسرائيلية المعهودة والمعروفة سلفاً..
لقد جدّدت سورية رغبتها في السلام العادل والشامل, وعلى العالم أن يعالج العقبة الإسرائيلية أمام تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة من جهة, أو محاصرة الإرهاب وأسبابه من جهة أخرى, وإلاّ فستبقى المنطقة فوق فوهة البركان, المجهولة ساعة انفجاره.