والحديث في مثل هذا يطول ويطول ولا يترك سوى الحسرة والأنين.. فقد امتد ذلك رغم الشرائع السماوية إلى القرن العشرين, عندما دمرت مدن وعواصم بأكملها واجتاحت رياح الحروب أوروبا, وما خلفت سوى الندم على ما فات.. والنظر فيما هو آت.
لكن هذا القرن.. القرن الواحد بعد العشرين قد استبدل الأصنام بالأرقام.. فهذا هو التفوق التكنولوجي.. والعصر الرقمي يترك مصائر البشر بين فكوك الآلات الحاسبة والكمبيوترات.. فآلات الحسابات الرقمية حتى أجزاء الأجزاء من الثواني.. أو أدنى الدرجات من النسب الصاعدة أو الهابطة.. العالم الآلي الرقمي ينفض عنه مسؤولية الاختيار ليقع في فخ الإجبار أو الإكراه. فماذا يقال أمام حواسيب تعطي نتائج بعينها, أو أمام أرقام لا يمكن أن تنحاز أو تخطىء?.. وهكذا تحل الأرقام محل الأصنام فتقرر حروبا.. وترفع رؤساء.. وقد ترمي بأجزاء كثيرة من العالم إلى البؤس والشقاء, ذلك لأن الإحصاءات والاستفتاءات والأرقام قد جاءت بما يعزز القرار رغم أنف العقلاء والحكماء.. وربما العلماء أيضا.. وكأن العالم يتحول إلى آلة صماء.. تدير له أموره فيرفع عن كاهله مسؤولية القرار ويعلقها على الأرقام.. تماما كما كان يفعل مع الأصنام.
عالم رقمي.. بل وثني.. ولا إنساني يضرب بالآلات كل الاعتبارات حتى الروحية الدينية والأخلاقية.. ويضع مصائر البشر في آلات جهنمية.. ترتفع وتنخفض مع الحسابات المادية فتنهال هنا وهناك شلالات الدولارات.. أو تنقطع فلا قطرة.. وإنما هي الخسائر أو العبرة. فماذا لو تأخرت الساعة الالكترونية مثلا عن إشارة زرقاء لجزء من مئة من الثانية عند أحد الرياضيين المتسابقين? وماذا لو أخطأ الحساب في عدد الأصوات والمصوتين? بل ماذا عن النوابغ والموهوبين الذين لا تخدمهم الأرقام, فإذا بهم مرميون إلى ساحات الفراغ أو إلى معارك فردية يخوضونها من أجل إثبات ذواتهم وقدراتهم الإبداعية أو العلمية أو حتى الفنية?
إنها البوصلة الجديدة التي تؤشر.. ولا من يتحكم أو يدبر.. وهكذا الأمر في أسواق المال والتجارة ما ظهر منها وما خفي.. وهكذا يتحكم الالكترون فيما يبقى للبشرية وما بقي.
إنها أصنام قرن جاء بعد العشرين.. في صنع أرقام.. وحسابات تحطم كل الأبعاد والمسافات.. وتفرض سطوة لا حد لها هي سطوة الاتصالات.. لكنها لن تسعد البشر.. ولن تحل مشكلاتهم وإنما عليهم أن يرسخوا قيما جديدة هي قديمة في الوقت نفسه, وهي قيم الخير والمحبة والسلام بين الشعوب, والمساواة بين الأجناس البشرية فلا قهر ولا عنصرية ولا استغلال ولا استبداد ولا احتلال.
فهل الآلات البكماء الصماء قادرة على أن تصنع ذلك?.. وما نظن ذلك.. فما الأولويات إلا للذين يصنعون هذا التفوق التكنولوجي باسم الحضارة والتقدم وهم الذين يحاولون السيطرة على العالم بالدم والنار إن لم يكن بالرغبة والاختيار.