وقد يتوهم البعض من هنا وهناك أن مثل هذه التداعيات وبما يرافقها من صخب إعلامي ومن كشف متواتر للمزيد من الحقائق هو ضرب من الديمقراطية, بل قلْ تعبيراً عن سطوتها وقدرتها على ممارسة الشفافية والحياد النزيه حين يتصل الأمر بحقوق الناس وكراماتهم الإنسانية?
غير أن لهذا المشهد وجهاً آخر لا يعنى بالديمقراطية كنظام سياسي وخيارات حرة, بل بوصفها نسقاً أخلاقياً أولاً, وسلوكاً اجتماعياً ثانياً, وحين تحدثت إدارة الرئيس بوش وتحدث أقطابها عن إحلال الديمقراطية والحرية في العراق, فقد كانوا يباهون بأنهم يقدمون خلاصتهم الحضارية والإنسانية للعراق والعراقيين, وتجربتهم الخاصة بهم, أخلاقاً وسلوكاً ونظاماً سياسياً أيضاً, أي سيقدمون نموذجهم الخاص من الشخصية الأميركية ومواصفاتها المعيارية والسلوكية, لنقلها وتوطينها في العراق وبين العراقيين.
ولطالما أوغروا صدر العالم واستقطبوه بالثقافة وطرائق العيش الأميركية, وبتلك المواصفات الحضارية الإنسانية التي يتحلى بها الأميركي ويمارسها ويتوق إلى التعامل مع الآخرين من خلالها, ولطالما زينوا لحضور الجيوش الأميركية في المنطقة بوصفه خلاصاً, ليس من أنظمة الحكم السياسية فيها فحسب, بل ومما ادعوا أنه تخلف وقمع وخنق حريات يكتنف بلدان المنطقة ومجتمعاتها.
وبالتالي, فإن الخديعة الكبرى, ليست في وقوع تلك الانتهاكات التي أقدم عليها جنود الاحتلال وقادتهم في سجن أبو غريب أو غيره, بل هي في الشخصية الأميركية ذاتها »الحضارية الإنسانية« وفي احتوائها على كل ذلك القدر من الوحشية ومركبات قمع الآخر واضطهاده وإذلاله..وهي التي تقدم نفسها نموذجاً لأخلاق الحضارة والسلوك الإنساني.
الخديعة الكبرى هي في المفارقة المذهلة داخل الشخصية الواحدة, الشخصية التي يمكن أن تكون إنسانية ووحشية في آن معاً, إذ كيف لإنسان أن يضحك أو يبتسم فوق جثة معتقل مات تحت التعذيب فيما عدسة الكاميرا تلتقط الصورة والمشهد.
لا ينتظر العراقيون اليوم أن تنتهي التحقيقات بانتهاكات أبو غريب إلى تجريم بعض الجنود الأميركيين أو تبرئتهم, ولا ينتظرون تفسيراً لتلك الازدواجية المرعبة التي شهدوا فصولها المرعبة بأم أعينهم وعلى أجساد أبنائهم, بل ينتظرون استعادة الكرامة المهدورة والسيادة المسلوبة بتحرير العراق كاملاً من الاحتلال, وبخوض تجربة الحرية والديمقراطية الخاصة, العراقية المنشأ والمواصفات والنتائج!!