كانت هذه الدعوة مثار جدلٍ حول جوهرها والغاية منها والإصلاح المطلوب والطريق إليه ومصدره والأسس الحقوقية والقانونية التي يجب الارتكاز عليها من قبل دول المنطقة في قبول فكرة الإصلاح, وبمعنى آخر احترام حقوق السيادة للدول وألا يكون الإصلاح مفروضاً من الخارج وتنميطاً للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدول المنطقة على النموذج الأميركي.
وحول الدعوة نفسها وفكرة الإصلاح التي حملتها, انعقد مؤخراً في مدينة الرباط بالمملكه المغربية منتدى المستقبل وانتهى إلى حل الشق المتصل بالخلاف حول مصدر الإصلاح بالاتفاق على أن الإصلاح مطلب لايمكن تلبيته إلا من قبل البلدان المعنية نفسها وفي إطار السيادة لكل دولة, فيما ظل الجزء المتبقي من الخلاف والمتعلق بدور الصراع العربي- الإسرائىلي في إعاقة أي عملية إصلاح في حال لم يتم إيجاد حل عادل له, ظل هذا الخلاف قائماً دون التوصل إلى صيغة تنهيه وتمهد الطريق إلى إصلاح شاملٍ في المنطقة.
ووجه الخلاف هنا يكمن في اختلاف وجهتي النظر العربية والأميركية حول علاقة الصراع بالإصلاح وتأثيره على مسيرته, ففي حين تصر الرؤية العربية على اعتبار حل الصراع حلاً عادلاً وشاملاً ضرورة لإطلاق عملية الإصلاح وتفعيلها على نحو ما جرى التأكيد عليه في قمة تونس وأعاد التأكيد عليه في اجتماع الرباط عدد من الوفود العربية والأوروبية, تذهب الرؤية الأميركية إلى التقليل من أهمية العلاقة بين الإصلاح وحل الصراع, وإقامة الربط فقط بين الإصلاح وكل من حماية حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب في محاولة لرد الإرهاب وجذوره ومسؤوليته إلى دول المنطقة بدلاً من دور الصراع وتداعياته وسياسات إسرائىل العدوانية وأخطاء السياسة الأميركية في تأجيجه وتوفير أسبابه, إذ قال باول توضيحاً لهذه الرؤية( الولايات المتحدة ملتزمة بالعمل بنشاط مع الفلسطينيين والإسرائيليين لحل الصراع لكن الإصلاح لاينبغي أن ينتظر.. كلنا يواجه الخطر اليومي للإرهاب ولكي نهزم المتطرفين القتلة يجب أن نعمل معاً لمعالجة أسباب اليأس والإحباط.. إن كفاحنا من أجل حقوق الإنسان يجب أن يتواصل..)
إن التدقيق في هذه الرؤية يضع الدعوة الأميركية بخصوص إصلاح الشرق الأوسط ضمن سياسة انتقائية تعتمد ما يروق لها ويتناسب مع مراميها ومصالحها وتهمل ما لا يتوافق معها, وهي ما اصطلح عليه بسياسة الكيل المزدوج التي تفقد السياسة الأميركية بوصلة التعرف بواقعية على المشكلات الحقيقية للمنطقة وتجعلها ترى أن مبعث هذه المشكلات كلها يكمن في غياب الإصلاح عن دول المنطقة, دون أن تدرك حقيقة أن التهديد الإسرائيلي الدائم للأمن القومي العربي والدعم الأميركي غير المبرر لإسرائىل بأخطر أنواع السلاح, والتغطية السياسية غير المبررة أيضاً لاعتداءات إسرائيل وجرائمها التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني, إضافة إلى غزو العراق لفرض الهيمنة على المنطقة, كل هذا يشكل السبب الجوهري والمحوري لعدم امتلاك دول المنطقة,والعربية منها على وجه الخصوص , مقومات التقدم والتطور والحداثة.. إذ كيف يمكن للعرب أن يوفروا أسباب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من مال واستقرار, وإسرائىل تهددهم ليلاً نهاراً في أمنهم واستقرارهم وتدفعهم إلى تخصيص القسط الأكبر من موازناتهم لتوفير سبل الدفاع عن وجودهم وأرضهم ومصيرهم.
إن الإصلاح المطلوب للمنطقة يجب أن يكون مشفوعاً بإصلاح يشمل السياسة الأميركية تجاه قضايا الصراع العربي -الإسرائىلي بحكم مسؤوليتها عن دعم إسرائىل وعن تراخيها في حل الصراع, وهذا يتأتى فقط من شروع الإدارة الأميركية بتحللها من أسر انحيازها غير الموضوعي لإسرائىل, وباعتماد سياسة تستند إلى الضغط على إسرائيل لإجبارها على قبول السلام العادل الشامل حلاً لكل مشكلات المنطقة, وكذلك المسارعة بإنهاء احتلال العراق باعتباره سبباً محورياً جديداً في تعويق أي عملية إصلاح في المنطقة. فالطريق إلى الإصلاح يبدأ بحل مشكلات المنطقة التي حالت دون تطورها لا بإضافة مشكلات جديدة إليها أو بالقفز فوقها.