ولعل الفهم الدقيق يقتضي الخروج من عنق الزجاجة الذي يراد له أن يظل مغلقا, وكأن هذه الاعترافات تكفي لتبرير مأساوية الواقع, أو لدحض الإجماع الدولي على تجذر الورطة واتساع مساحة المستنقع .
وفي الحالين الأمر حالة التفافية تقدم ذاتها دون رتوش, وتترجم ما في داخلها دون استعانة, بدليل أن رامسفيلد وهو يواجه الأسئلة المحرجة للجنود الأميركيين, والاتهامات الصريحة والواضحة , لم يكن بمقدوره, ردم الفجوة القائمة في الممارسة الأميركية .
وحتى الجنرال مايرز في وصوله المفاجئ الى بغداد كان عاجزا عن تبديد الصورة القاتمة أو التقليل من سوداوية المشهد, وخصوصا عندما اصطدم باعترافات قادته الميدانيين, أن الوضع تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة , كما اصطدم بالمحظورات جميعها تقريبا.
وبين الصدمة والاتهام, وتعالي أصوات الجنود الأميركيين , ثمة مساحة تكبر لتعبر وبوضوح عن أن المتاهة لم تعد محصورة في فضيحة الذرائع الملتوية, ولا في افتقاد البديل الذي يحفظ ماء الوجه,بل أيضا في بذور الانشقاق التي يواجهها التحالف بعد أن أعلنت دول عديدة فيه رغبتها في إنهاء مشاركتها, أو كحد أدنى تحجيم هذه المشاركة .
وبالتالي فإن الأسئلة المحورية تعالج المعضلة من منظور مختلف كليا عن اجتهادات البنتاغون الأميركي, وحتى عن استنتاجات مراكز البحوث المرتبطة عضويا ومصيريا به, وتلح على إجابات تفتقدها الإدارة الأميركية, وفي مقدمتها الرؤية المستقبلية التي لم تعد ضبابية فحسب, وإنما وفق رؤية غالبية المحللين والاستراتيجيين, تكاد أن تكون معدومة .
وفي الذاكرة التي رغب الأميركيون في حشوها, لا تزال بعض الافتراضات ومساحات التفاؤل التي أطلقها قادة البنتاغون, راسخة في تلك الذاكرة, ومراجعة بسيطة لها كافية للإدراك أن ابتلاعها أضحى أمرا محسوما, وسحبها موضوع لا يحتاج إلى نقاش .
والمقارنة إذا صحت لا تعدو مجرد تداعيات لمتتالية من التراجع, والمفاجآت غير المحسوبة, وأغلبها كان نتاج تلك الافتراضات الخاطئة التي تصر إدارة الرئيس بوش في ولايته الثانية على التعلق بها .
والنموذج الذي يبدو صالحا للقياس هنا هو تلك الادعاءات التي ترافق تصريحات الأميركيين حول ما حققوه من (تقدم) في العراق , وهو (التقدم) الذي تحول إلى اسطوانة مكرورة دون أن يترافق ذلك بجردة بسيطة للحساب أو بمقارنة متواضعة للنتائج .
ربما الوقت المتبقي للانتخابات العراقية الذي يضيق باستمرار, سيكون الذريعة للهروب من تلك المقارنة, ولكنه مؤقت, وخصوصا عندما تتنامى الدعوات لإرسال المزيد من القوات, التي ستصبح أكثر إلحاحاً مع استحقاقات ما بعد الانتخابات, وبعد أن يتداعى التحالف عبر الانسحاب المزمع لدول عديدة منه.
عند ذلك, لابد من مراجعة, ولا مفر من المقارنة, وإذا كانت الانتخابات هي قاعدة الاتكاء الجديدة التي يتم تلميعها, فإن الكثيرين يرون فيها منذ الآن قاعدة رخوة, وهشة بالكاد تستطيع أن تتماسك أمام نفسها, فكيف لها أن تحمل وزر غيرها?!