بل هي أيضا العادات والتقاليد وكل ما يكون شخصية الفرد في هذه الأمة وحتى الفلكلور والأمثال والحكم هي أيضا جزء من هذه الثقافة.. يتبعها صاحبها أو يعيشها بإحساس جماعي وبشكل لا شعوري أكثر منه فرديا أو اختياريا.. ولكل أمة ثقافتها وبحرها.
صحيح أن البحار تتجدد بالأنهار والروافد وحتى بالسواقي, لكنها تظل هي البحار وكل بحر محكوم أو متأثر بالمناخ والعوامل الطبيعية التي تؤثر فيه وتوالي المتغيرات التي تأتي بها الأيام.. ولا يمكن لأي بحر أن يخرج عن خصائصه فكيف إذا ظن بعضهم أنه يمكن تجفيفه لإحلال مياه أخرى مكانه? هذا مع العلم أن البحار يمكن أن تتداخل مياهها.. أو تتواصل.. لكنها لا تتغير.. ولا تتأثر.
والثقافة العربية هي هذا البحر الزاخر العظيم الذي عاصر التاريخ منذ آلاف السنين.. واحتضنت مياهه كل ما جرى على ضفافه من حروب.. وما شع من حضارات.. وما ساد من قيم ومفاهيم وفلسفات بل من أديان كانت هي الحياة التي ظلت تنبض فيها.
والمسألة المعقدة التي تزداد تعقيدا هي محاولة القوى الطاغية والاستبدادية تجفيف هذا البحر دون ثقة بما ستملأ فراغه.. ولاسيما أنها قوى جديدة على التاريخ.. ولم تمض عليها سوى قرون معدودة.. وأنها تشكلت من خلاصة حضارات الشعوب والأمم التي سكنت أرضها وقدمت لها العلم والمعرفة.. وساعدت على نشوئها وارتقائها حتى أوصلتها إلى النتائج المذهلة للتكنولوجيا المتفوقة المدنية منها والعسكرية.
ويجري التفكير في هذا البحر الكبير من نواح عدة: هل هي السياسة أم القيم والمفاهيم? هل هي الأديان أم مناحي الإيمان? كيف ننشىء أجيالا مقطوعة عن ماضيها لا ترتوي من تلك الأنهار.. ولا تحمل تلك الآثار?
ويفكرون في المناهج المدرسية وغير المدرسية.. ويفكرون بطرح القيم والمفاهيم الحديثة المتطورة والجديدة.. ويفكرون بشبكات الاقتصاد بكل ما لديهم من اجتهاد.. لكن البحر يظل هو البحر.. وهو قادر على أن يلفظ ما يلقى فيه, كما هو قادر على أن يكنز اللآلىء والثروات. وإذا كان هناك تفكير في التأثر أو التأثير فهو ينبع ممن يملكون الحق في هذا البحر.. دون ضغط أو إكراه أو قسر.. فهم الذين يجب أن يجددوا ويغيروا زيادة أو نقصانا.. وهم الذين يملكون القرار وهم الذين يستطيعون أن يقفوا في وجه كل من يحاول أن يسحب منهم هذا القرار. أما أن تقوم صراعات دموية وحروب وتستعمل أحدث أنواع الأسلحة وأكثرها فتكا من أجل هذا التغيير فهذا ما لا يؤيده التاريخ ولا منطق الأشياء.. فكم من شعوب قهرت واستعبدت لآماد طويلة ثم عادت إلى جذورها الأصلية وإلى منابعها الغنية, وإلى أصول ثقافاتها التي كونت شخصيتها.