بل بصراحة كنت أراها بحرا محيطا مليئا بالمراكب والربابنة المهرة المحترفين.. وكنت أتهيب ذاك المحيط.. ولكم وقفت على الشاطىء أدون أسماء السفن وأحفظ أسماء الربابنة.. وعرفت أن ذاك المحترف الذي يكتب ويوقع (محترف) كان ممدوح عدوان.
في عام 1967 تجاوزت الشاطىء إلى الأعماق البسيطة من المحيط الذي سمته.. تعرفت عليه لأول مرة.. كنت متهيبا الاقتراب منه, فقد كان له أشواك في القول: المقارعة والممازحة.. وبعد سنين طويلة اكتشفت أن كل تلك الأشواك هي لحماية باطن إنساني نبيل يحب ويكره لكنه لا يؤذي. كان فيما يكتب أقرب لنا.. كنت أشعر -وربما كنا نشعر- إنه يتجه لنا فيما يقول.. دون أستذة ربما.. أعني أنه حتى في صغير ما كتب وبسيطه, ضمنه احتراما لمن يقرأه كالتحية.
في عام 1968 حضرته لأول مرة في أمسية شعرية في جامعة دمشق قرأ يومها قصيدة عن غزة والقدس (اسمك القدس أم أورشليم) قصيدة تعطيك دون رموز واستنتاجات وعقد ,صورة عن نضالات غزة وأسر القدس -طبعا لن أتحول إلى النقد الشعري- بل أريد أن أؤكد أن ممدوح كان قريبا لنا, ولأحاسيسنا ومشاعرنا في شعره وما كتب وما قال.
لا أدعي أن عملنا المشترك في صحيفة واحدة حولنا إلى أصدقاء.. بل أقول ربما كان كل منا راض عن وجود الآخر في هذه الحياة.
التحق -رحمه الله- بخدمة العلم.. ولم يغب اسمه ولم تغب مقارعاته الصحفية.. وعندما التحقت أنا بخدمة العلم في عام ..1973 كان ممدوح لطيلة ما احتفظوا به ضابطا إعلاميا معروفا في الجيش, وكانت مجلة جيش الشعب مطبوعة تقرأ فعلا, وكان يعمل فيها عدد مهم من الزملاء الصحفيين (خدمة العلم) .
مع قيام حرب تشرين ,1973 الضابط الإعلامي المعروف ممدوح عدوان أخذ بعدا آخر.. غير مسألة إعلامي.. طبعا لم يصبح جنرالا ينظر للمعارك بل ظهر فعليا -لا شعريا فقط- كعاشق لوطنه لا يخاف.. في الحرب التي خضناها معا ممدوح لم يخف أبدا بل كان مثالا في جرأته.. في عام 1974 تسرح ممدوح من الجيش العربي السوري وعاد إلى جيش الإعلام السوري.
بعد ذلك تزوج.. وتعرفت إلى زوجته.. التقينا أكثر من مرة.. في الشارع.. في الأسواق.. في مناسبة ما.. وأحسسته رجل أسرة.. في تلك الفترة طلب مني أن أكتب تحقيقا حول قضية محددة. فاعتبرت طلبه تحية مباركة فعلا (أخيرا هو اعتراف) ?!ثم قرأت لممدوح مرة إشارة في مقال صحفي يمتدح زاوية لي كتبتها في العدد الأول من جريدة الوحدة التي تصدر في اللاذقية..
دون أي فذلكة كنت أرى ممدوح صادقا ومحترما ويحترم الآخرين.. لكنه كان مجاهرا في الرأي, لذلك حافظ على ظاهر متحد وأعماق طيبة راقية تؤكد ما تركه على الورق.. على المسرح.. على الشاشة.. كان يحب ما يحبه الآخرون ولا يرى ضرورة التعالي عليهم وفي الوسط الأدبي الثقافي لم يكن ذلك طبيعيا.. فقد انتقد يوما لأنه أعلن أن صوت عبد الحليم حافظ يرضيه.
لم نصبح أنا وممدوح أصدقاء أكثر من ذلك.. قرأته, رأيت مسرحه ودراماه.. زرت بيته وعرفت إلهامه الصديقة الجميلة.. لم نكن حميميين نلتقي ليلا نهارا.. لكن.. كنت أشعر بوجوده في هذا العالم .
بهذه الحدود هل يحق لي أن أقول: إني حزين لغيابه.. وإنني أشعر بغصة أنه لم يعد موجودا.