انتهت السنة ومازلت أحبك
والسنة الماضية أيضا كنت أحبك. وسأحبك هذه السنة على الرغم من الصقيع الذي أصاب ورود الحديقة وأتلف الحبق الذي كنت أخبئه في يدك سرا عن عيون الأشجار..
انتهت السنة ولم تستطع أن تأخذ مني قلبي.. فأنا تسيجت بك, واحتميت من طوفان النسيان بصوتك. ومع أن حقيبة يدي مملوءة بقصاصات الحزن الممتدة من العراق إلى فلسطين, إلى فقدان ممدوح عدوان وميخائيل عيد إلا أنني مازلت أحتفظ بزاوية لصوتك الصباحي يأتي كما الفجر من وراء الغيوم والقهر والمساءات المدججة بالدبابات والأشلاء والخطب البائسة (كيفك اليوم?) فأرد بشكل عفوي ودون تفكير (أنا منيحة) ولكن ما إن أغلق الهاتف وتكبر المسافة بيننا حتى أعود إلى الجواب الذي أطلقته في الهواء (أنا منيحة) هل حقا ما أقول?! لأكتشف أنني لست كذلك إلا بتأثير لهفتي حيث أن هذه اللهفة تجعلني أرى الحبق أخضر مع أن الصقيع رمّده.. وأرى أشجار الحور الباسقة تطل على السماء الصافية مع أن شجرات الحور مقطوعة منذ أوائل الخريف.. وأرى بوابة الحديد مفتوحة على الأفق البعيد, ممتدة إلى جهات الشمس والروح والعالم الأبدي مع أن البوابة مقفلة والمفاتيح في جيبي.. إذن هذا ما يصنعه الشوق يغير في أعماقنا.. ويغير في مظاهرنا.
فأنا لولاك ما جددت ورود الباب.. وما جددت زراعة الياسمينة التي -موتها البرد- ولولا صوتك ما استيقظت مسرعة إلى الهاتف أنتظره.. فإذا ما تأخر باليقظة أرفع السماعة لأتأكد إذا كان الخط مقطوعا أم لا. فهل تدري ماذا يصيبني إذا ما كان الخط مفصولا?! قد لا أشرب قهوة الصباح. وقد لا أرش من العطر الذي اشتريته لأجلي. وقد لا أفتح الباب ولو صرخ الجرس حتى ضاق صدره. عند ذلك لا أجد أمامي غير شاشة التلفزيون التي تكر مآسيها صباحا باكرا.. رؤوس تتدحرج في العراق.. رؤوس في غزة. خرائط لم تعد موجودة إلا في الذاكرة.. أسماء تتحول وتتبدل.. يا الله تكاد أنهار الدماء تملأ العالم.. تكاد السماء تمطر دما ونحن قاعدون.. صامدون في الصمت.. وكأن صوتا يصرخ (هذا ما جنته يدانا) فأرتعش فزعا من هول ما أرى وأنهض ثانية لتفقد الهاتف عله يأخذني إليك ويخرجني من زحمة الأشلاء والخوف.
انتهت السنة.. وسأحبك في السنة القادمة. لن أغير خططي المستقبلية.. سأظل على ثباتي في وجه النسيان.. وسأحرص على عدم التحول كما هو الحال في عالمنا العربي.. لن يفزعني طوفان الرصاص.. ولن أصدق خطباء القادة والأحزاب.. وبعض الشعراء.
سأصدق فقط أنك مازلت تحبني. وأن السنة الجديدة عندما تدير لك ظهرها ستتذكرني.. وستشرب نخبي سرا عن الذين يترصدون يديك وصوتك.. بل أتخيل أن تنهض نحو النافذة وتطلق اسمي في ا لهواء عابرا الجبال والأنهار ليصل نداؤك إلي.. وأظن أن السنة الجديدة ستحبني أكثر لأن الدمار الروحي الذي يصيبنا كل يوم لم يترك لنا شيئا نفرح به ونتهيأ لاستقباله سوى الحب العصي على البارود والقتل والأقنعة.
انتهت السنة- هل أبكي عليها فأركض وراءها متوسلة أن لا تذهب لأنني ما انتهيت بعد من ترتيب أفكاري وما أنجزت خراب دهشتي. فأنا مازلت أندهش مما يجري لدرجة الألم, وأندهش من تحولات العالم حتى البكاء. أشعر أن كل شيء صار رملا ينفذ من أصابعنا...
انتهت السنة.. أأكذب عليها وأغني في وداعها وهي تسحب من أوراقي ورقة وتخلصني سنة من جعبة الحياة? أم أرفع نخب الخراب وأنا أرنو إلى خراب يلوح ويقترب?! لكن.. وبما أنني أحبك.. وسأحبك في السنة القادمة. فلن تهزمني الكوارث ولن أتهاوى أمام الخراب.. سأشرب نخبك وسأخرج إلى الشرفة عندما تغلق السنة الباب وراءها وتخطو أول خطوة باتجاه الرماد. وسأصرخ بأعلى لهفتي حتى أوقظ البحر وأقول لك ولكل الذين يسمعونني: كل عام وأنتم بخير.