وفي الحالتين الشاهد مرٌّ, بل شديد المرارة وكارثي إلى الحد الذي يدفع إلى الاعتقاد, بأن المتاهة لا نهاية لها, والمستنقع دون قاع.
فالرسائل الأميركية التي دمغت بدماء العراقيين في الفلوجة والمدن الأخرى, تبدو قاتمة وشديدة السواد في مرحلة انتقالية تتقاذفها التوقعات والاحتمالات والاستنتاجات, فيما الوقائع تكرس معطيات متناقضة, وتقود إلى تطورات هي الأخطر.
قد يكون النقاش في شرعية الحرب أمراً قد حسم, لأن الذرائع تساقطت, والأمم المتحدة أشهرت رأيها في عدم شرعيتها, لكن ذلك لم يحسم تداعيات تبدو في اللحظة الراهنة أكثر إلحاحاً, ومشهد الفلوجة إحدى أكثر التداعيات المثيرة التي تفتقد لمبرراتها, وتدفع بالأوضاع العراقية إلى أتون صراع مفتوح.
لا أحد في العالم كان بمقدوره أن يشرع الاقتحام الأميركي, والمدنيون الذين يقتلون , تعجز السياسة عن فهم مبرراته, في وقت ينفتح المشهد برمته على تجاذبات ستكون لها انعكاساتها وتأثيراتها على مستقبل العراق والمنطقة.
فالاحتلال يولد المقاومة, والإمعان في القتل ينتج التصميم والإرادة على المقاومة, والمشهد سبق له أن تكرر في الماضي, وهو كذلك في المستقبل, والأمثلة الحية في الرمادي والفلوجة وبعقوبة وأماكن أخرى تحرك ذلك المشهد وتعيده.
لذلك مثلما سمعنا عن اقتحام أول سيتردد على أسماعنا اقتحام ثان وثالث, وتعاد الكرة مرة أخرى.
لذلك مثلما كان الخطأ فادحاً في الحرب, هو يتضاعف في تفاصيل ما بعد الحرب, وفي الوقائع اليومية للاحتلال الذي يعالج الخطأ بخطأ أكبر, والكارثة تداوى بكارثة أخرى, وتتتالى المشاهد في حلقة من التصعيد اللا متناهي..!
ثمة استنتاجات متفائلة, كانت قد طفت على السطح, بعد فوز الرئيس بوش, والإعلان عن سلسلة تغييرات في طاقم الإدارة الأميركية, وتبع ذلك تحليلات بالغت إلى حد ما في رسم صورة مغايرة لاتجاهات السياسة الأميركية في الولاية الثانية بناءً على افتراضات يعتقد الكثيرون أنها خاطئة.
فالوقائع التي تحكم النوايا, تحدد إطاراً مختلفاً, وحتى مناقضاً لكل تلك التحليلات, ولا سيما أن تلك الوقائع المتصلة باقتحام الفلوجة وتوقيت ذلك الاقتحام يطرح هذه الرؤية المغايرة, ويستبعد صور التفاؤل التي كانت مطروحة.
من هنا كانت لغة الرسائل الأميركية توحي بذلك الاستغراق في المستنقع وتعطي المبرر لتأكيد حالة الارتجال في مداواة جراح حرب أثقلت البشرية والمجتمع الدولي بالكثير من التداعيات المؤلمة, بل وساهمت في تعميق تلك الجراح.
والأخطر من ذلك أن تكون الفلوجة مثالاً ونموذجاً, وأن تتحول الرسائل الدموية التي تكتب فيها إلى معيار للتعاطي مع مشكلات الاحتلال التي تتفاقم.
ويتوازى ذلك كله مع رؤية قاصرة تختصر الحدث والرسائل والأمثلة في متاهة البحث عن ذرائع ومبررات تخفي وراءها الكثير من الغايات والأهداف التي تتجاوز حالة الفلوجة, وتنتشر إسقاطاتها السياسية على مساحة أوسع من العراق, وأكبر من كارثة الاحتلال ذاته.
وبالتالي لابد من وقفة مراجعة قبل أن يصبح انفجار الأوضاع رهن أخطاء تتراكم, وإمعان في ارتكاب المزيد منها, بل وربما تصميم أشد خطورة على ممارسة الخطأ, وبالأسلوب ذاته كما هو بالطريقة نفسها..!.