ومع أن مواقف بعض دولها تتباين أحياناً إزاء مشكلة الشرق الأوسط, التي تعتبر في نظر العرب مقياس التوازن, إلاّ أن مواقف المجموعة الأوروبية كمجموعة, اتسمت في كثير من المنعطفات والمطبات بالكثير من التوازن والموضوعية وكذلك المصداقية..
ولعل من أبرز القواسم المشتركة التي حرص عليها الجميع عرباً وأوروبيين هي الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط, الذي أرادته سورية بحيرة سلام, تمخر عبابها سفن التواصل والتفاعل الحضاري.
إلاّ أن الأمن والاستقرار لم يتحقق منذ ولدت إسرائيل في قلب الوطن العربي ولادة قسرية تم زرعها بفعل الخلل في التوازن المطلوب إبان الاستعمار وبعده, ودفعت الأمة العربية ثمناً باهظاً لا قبله, ولا بعده من الأثمان التي دفعتها شعوب الأرض قاطبة.
وظلت الأمة العربية عموماً.. والبلدان المتشاطئة مع أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط على وجه الخصوص وفيّة لأمن الجوار واستقرار الشعوب.وقد واجهت المخططات الإسرائيلية بكل ما تملك, وصّدت الهجمة الصهيونية التي لو امتدت لطالت في أطماعها المنظورة وغير المنظورة أوروبا ذاتها..
لا مبالغة في هذا.. وما يفسر ذلك الحرص الأوروبي على لجم الاندفاعة الإرهابية لقادة إسرائيل عموماً ولأرييل شارون على وجه الخصوص, بغض النظر عن فعالية هذا اللجم في وقت من الأوقات, وعدم فعاليته في وقت آخر..
ولا نريد الدخول في تفصيلات المواقف وتبايناتها من جهة, وظروف انسجامها من جهة أخرى, إلاّ أن الوفاء يقتضي الاعتراف بالدور المحوري الذي لعبته إسبانيا في إطاري المجموعة الأوروبية والدول العربية, وقد رشحت هذه المواقف المتزنة إسبانيا لكي تصبح بوابة أوروبا على سورية, ومن خلالها على العرب وبالعكس.. وهو الأمر الذي أدركته سورية من قبل ومن بعد على طريق معبّد وسريع من دمشق إلى قرطبة, ومن قرطبة إلى دمشق, مروراً بمدريد, وقصر الحمراء والأوابد المؤبدة التي تركها العرب, والسوريون عنواناً للتفاعل الحضاري وتخليداً للتاريخ.
من هنا تكتسب زيارة السيد الرئيس بشار الأسد والسيدة عقيلته إلى إسبانيا أهميتها البالغة, وبخاصة تزامن هذه الزيارة مع انعقاد القمة العربية والقرارات والتوصيات التي اتخذها القادة العرب والتي يحملها الرئيس الأسد كي تكون قاعدة تحرك أوروبي منتظر سواء في قمة الثماني المزمع عقدها في ولاية فلوريدا الأميركية بعد أسابيع, أم في القمم الثنائية, أم الجماعية الأوروبية لوقف الإرهاب الإسرائيلي الذي هدّد وسيظل يهدد أمن واستقرار حوض البحر الأبيض المتوسط. وما يميّز مدريد ويحمّلها عبئاً سياسياً وأخلاقياً أنها الشاهدة الأبدية على انطلاقة مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وعلى مدى التزام العرب بروح مدريد وأهداف عملية السلام.. وكذلك على تهرب الجانب الإسرائيلي, ومراوغاته للتملص من الشرعية الدولية, والانقضاض عليها, والهروب من مدريد, ونكران جميلها وجمالها.
وعندما تستضيف مدريد السيد الرئيس بشار الأسد والسيدة عقيلته إنما تؤكد على دورها وهويتها وحضورها وإسهامها المعهود.. والمأمول على الساحتين الأوروبية والعالمية لوقف العدوان الإسرائيلي على العرب, وإنهاء الاحتلال الأميركي للعراق, والدفع باتجاه تحويل حوض البحر الأبيض المتوسط إلى بحر سلام وصداقة, تحلق في أجوائه طيور النورس, لا طائرات القتل والتدمير, وتمخر عبابه سفن التواصل الحضاري بين الشعوب, لا بوارج التهديد والعدوان كما قال الرئيس الخالد حافظ الأسد خلال افتتاحه لدورة ألعاب حوض البحر الأبيض المتوسط في أيلول عام 1987 .. نريد حوض المتوسط نواة للسلام العالمي منها تنتشر حمائم السلام لتنتشر في سماء الأرض.
هكذا نفهم العلاقات الدولية, وعلى هذا الأساس نبني مستقبل الأجيال.. هي رسالة سورية بكل المقاييس, وعربية بكل المواصفات, يحملها الرئيس بشار الأسد إلى أربع رياح الأرض بتفاؤل الرجال وعزيمة أهل الحق, وثقة بالنفس كما في الأصدقاء على الساحة الدولية ومنها إسبانيا شعباً وحكومة, التي رحبت بالزيارة ترحيباً خاصاً لا يخلو من الوجدانية التي قد لا تستطيع وسائل الاعلام الإحاطة بها..
وما قاله وزير الخارحية الإسباني (موراتينوس) أصاب كبد الحقيقة عندما قال (بأن زيارة الرئيس الأسد والمباحثات التي يجريها مع رئيس وزراء إسبانيا المنتخب ستسهم في إعادة التوازن لنظام العلاقات في الشرق الأوسط, بالنظر لأهمية سورية ودورها المفتاحي في المنطقة الملتهبة, وهي عامل أساسي في استقرار وأمن المنطقة) الأمر الذي يجعل رؤية إسبانيا وسورية رؤية واحدة, ستؤسس لرؤية أوروبية - عربية متقاربة إزاء العديد من المشكلات الحادة المطروحة على الساحة الدولية, ومنها مشكلة الاحتلال الأميركي للعراق وسبل استعادة سيادته وتكريس وحدة أرضه وشعبه, ومشكلة الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي, وسبل وقفه وردعه, وإحياء عملية السلام التي انطلقت من مدريد قبل أكثر من عشرة أعوام.