هذا ما قررته قمة الثماني التي أنهت أعمالها في سي آيلاند بولاية جورجيا الأميركية, والهدف من هذا الإيفاد -كما قالت المعلومات- إعطاء مصداقية لالتزام الرباعية بتسوية الصراع العربي الإسرائيلي..
وعلى الرغم من المتابعات الحثيثة لكل ما صدر عن القمة منذ الإعداد لها, وحتى اختتام أعمالها فلم نجد رابطاً بين حل الصراع العربي الإسرائيلي المزمن وبين انتخابات بلدية في الأجزاء المتبقية من فلسطين, وما علاقة المصداقية الدولية إزاء عملية السلام بانتخابات محلية لمخاتير ورؤساء بلديات تقبع تحت الاحتلال والقصف الإرهابي المستمر, فضلاً عن التجويع اليومي لشعب أعزل حتى من الرغيف..
ولكي يخرج القادة الكبار من حرجهم إذا ما اعترضت إسرائيل على نوايا المجموعة (البلدية), سارع البيان إلى التأكيد على أن النزاعات -وهو يعني الصراع العربي الإسرائيلي المزمن- يجب ألاّ تشكل عقبة في وجه الإصلاحات التي إذا ما أنجزت على الطريقة الأميركية يصبح للسلام مفهوم آخر لا علاقة له بالأرض, ولا بالحقوق, ولا بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة, ولا بالمفاهيم السائدة التي اعتنقتها شعوب المنطقة كدستور للحضارة والتاريخ..
ولكي يكون التاريخ شاهداً على انحراف المفاهيم, وتغيير مسارات الأحداث, وتهجين الحقيقة التي دفع الشعب العربي لأجلها من ثرواته ودماء أبنائه مالم يدفعه شعب على وجه الكوكب, دعي الشهود العرب الذين اكتفوا بالصورة التذكارية على شواطىء جورجيا, فيما كانت طائراتهم الخاصة تنتظر الإقلاع عن الأرض, والإقلاع عن المواقف..
وحده الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي قال بوضوح فرنسي ولغة فرنسية رزينة ( إن دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا ليست بحاجة إلى مبشرين بالديمقراطية, ولكي تتجذر الديمقراطية وتصبح متينة في العالم العربي, ينبغي أن تكون ديمقراطية عربية قبل أي شيء آخر..) .. ولاداعي للقول إن ما قاله الرئيس شيراك بلغته لم يقله الشهود العرب بلغتهم ولا بلغة الإشارة (لغة الصم والبكم)..
نعم... يجب ألاّ يشكل (النزاع) عقبة أمام تطور المنطقة سواء وفق منطق نص مشروع الشرق الأوسط الكبير الأميركي الصياغة والأهداف, أو وفق منطق الرئيس شيراك, ولا نقول وفق المنطق العربي الغائب الحاضر.. ولكن ليس باللجوء إلى تأجيل الحلول.. وتسويف المبادرات.. وتبديد قرارات مجلس الأمن, وتسفيه الشرعية الدولية ,وإنما بإرادة الحزم وإنهاء الصراع وإحلال السلام, وهو عمل كوني جبّار لكنه لا يستغرق الوقت.. ولا يستنزف الطاقات, وبعدها يمكن الإسراع بالمستورد من الديمقراطيات كما يرى الرئيس بوش, أو بالمحليّ منها كما يرى الرئيس شيراك..
فالإسراع المطلوب هنا هو الإسراع في تفكيك الإرهاب الرسمي الذي تنتهجه إسرائيل, ولجم الاندفاعة العدوانية للإرهابي الموصوف أرييل شارون ,وإعادة الحقوق والأرض إلى أصحابها وفق رؤية الشرعية الدولية وقراراتها التي يعرفها, ويؤمن بها قادة الدول الثماني إذا ما تحرر المأسور من أسر الفكر الصهيوني المستحكم في عقول وإرادات البعض منهم.
وأي إسراع متهور لفرض مفاهيم جديدة مهما بلغت في أناقتها أو شكلها أو مضامينها المفخخة سيفخخ المنطقة بأسرها, لأن ذلك بمثابة صب الزيت على النار سواء أدرك المجتمعون ذلك علناً أم أدركوه صمتاً كصمت العرب, ذلك أن المفاهيم الجديدة الجاري تسويقها تهدف أول ما تهدف إلى إغراق المنطقة بكل ما ليس له علاقة بالصراع العربي الإسرائيلي ومنه الفلسطيني,وجعل مفاهيم ومستندات هذا الصراع في الركن الخلفي من الاهتمام العربي والإقليمي والدولي.. بالإضافة إلى أنه يسهم مجاناً في تحسين صورة الولايات المتحدة الأميركية السيئة, وهو الأمر الذي عجزت عنه الإدارة الأميركية بإمكاناتها الواسعة ونفوذها الطاغي حتى على العرب أنفسهم.. فضلاً عن أنه يلغي.. نعم يلغي عملية السلام بمفاهيمها السائدة ويزجها في أتون مفاهيم الديمقراطيات التي (أنجزتها) إسرائيل من قبل, حسب الفهم الأميركي المنحاز علناً بإدارة معه لا إرادة له.. وما يؤكد ماذهبنا إليه قول الرئيس الأميركي في القمة من أن مشروع الشرق الأوسط الكبير سياسة ستمتد إلى أجيال.. وهذا يعني أن النزاعات الإقليمية التي يجب ألا تشكل عقبة أمام المشروع سيؤجل حلها الى مابعد ذلك بكثير.. بمعنى أدق دفع مسألة إقامة السلام في المنطقة إلى الغيب والمجهول.. والله أعلم.. والتفرغ الى إعادة ترتيب المنطقة ونظم الحكم فيها.. وأساليبها في الحياة وفق طريقة الطعام الأميركي السريع, وموسيقا الجاز الأسرع, بعيداً عن رائحة العود والعنبر, ونغم القانون ونعني به آلة الموسيقا الشرقية.. على اعتبار أن القانون الدولي في خبر واشنطن.
من ألم الواقع العربي نقول هذا... ومن وجع المنطقة نهذي.. أليست هذه مفارقات الهذيان العالمي وسط الصمت الساكن الهادىء الوديع للصوت العربي المبحوح اللاطي وراء (لاحول ولا قوة), على الرغم من أننا خرجنا للتو من قمة عربية كان انعقادها أملاً, ونتاج قراراتها طموحاً في زمن الطموحات المتواضعة والأحلام الساذجة القائلة من أن انعقادها أفضل من عدمه.. ومع ذلك فقد باركنا القمة وسنبارك أي عمل عربي مشترك, فالزمن الراهن لا يحتمل المهاترات مهما كانت موجعة, ومهما كانت موغلة في الصح والصحيح..
وعلى سيرة القمة ونتائجها.. هل لنا أن نسأل لماذا لم تلبّ مصر والسعودية والمغرب وتونس الدعوة إلى قمة الثماني, ولماذا لبّت البحرين والأردن والعراق والجزائر واليمن?ومن منهم حضر القمة العربية, ومن منهم غاب عنها? ومن منهم كان غائباً حاضراً هنا? ومن منهم كان حاضراً غائباً هناك?
إنها أسئلة لا أملك جواباً عليها.. ولهذا سأتركها برسم الشارع العربي الساكن المترقب المتوثب دائماً.
لا شك بأن الهجمة شرسة, ومبرمجة, ومدروسة, ولها أدوات التنفيذ المعروفة, للنيل من الناصع من تاريخنا.
ولا أبقى..ولا أنصع من الموقف السوري الذي نعرف أكلافه بقدر ما نعرف صوابيته وسداده..
وعلى دربه نسير, وليس من (اللغة الخشبية) القول إن الجماهير العربية معنا, ومن معه الجماهير لا خوف يعتريه, ولا يأس يكتنفه..