التي روتنا بعد عطش مرير.. وتلك هي الحقيقة التي جعلت العدوّ قبل الصديق, يوقنُ أن إرادة الشعوب لا تُقهر, ولو بعد حين.. مهما تجبّر العدو وتكبّر.. وتلك الحقيقة أيضاً كانت هي بداهة الأوطان.. وسجيّة أبنائه.. وتلك الحقيقة كانت أكثد وضوحاً عندما أدركناها ونحن بجوار قائد كبير, نتفيَّأ بظلاله وحكمته وحنكته..
لم يكن قائداً عادياً ذاك البطل الخالد الذي قاد حرب تشرين, وقد استطاع بعراكه مع الحياة بحلوها ومرّها أن يكوّن منظومة فكريَّة دقيقة عن الحرب ومعانيها, وعن صورها وأعبائها و آثارها ونتائجها وفلسفتها كذلك عن ضروراتها وأخلاقياتها أيضاً.
لقد استطاع الرئيس الخالد حافظ الأسد, أن يضع على مدى سنوات توصيفاً دقيقاً لهذا كلّه, وتوصيفاً أشدّ دقة للسلام وأهميته, وضروراته.. لقد كان -رحمه الله- داعية سلام, ولم يكن يوماً داعية حرب لأجل الحرب.. حتى أن قيادته لحرب تشرين ذاتها لم تكن تستهدف سوى السلام كفايةٍ نهائية: ( لسنا هواة قتلٍ و لا تدمير, وإنما ند فع عن أنفسنا القتل والتدمير) كلمات بليغة لا تزال ترنُّ في آذاننا نطقَ بها القائد الخالد في أول يومً من اندلاع الحرب, رغم أنه لم يشعر يوماً باستهواءٍ للحرب ونزوع إليها..
قال الرئيس الخالد :
( الحرب هي ضرر للطرفين المتحاربين.. دائماً الحرب شرور و أضرار) و ( لا أحد يحب الحرب) و ( دائماً الذي يُفكر أن الحل العسكري هو الطريق , هو المعتدي, الحل العسكري هو شعار المعتدي تقليديَّاً).
ولم يكن قائد حرب تشرين الرئيس الراحل حافظ الأ سد, يرى أن الحرب ضرورية هكذا دون أسباب... حيث قال :
( في ضوء آفاقٍ عسكرية, لا أظن أنَّ العمل العسكري سيؤدي إلى حلّ مناسب) و ( أساليب القو ة لن تؤدي إلى نتيجة) و ( العقل البشري ليس عاجزاً عن البحث عن أساليب أخرى غير العمل العسكري لايجاد حلولٍ مناسبة) و ( رسائل السلاح لم تعد قادرة على حل المسائل, عكس مصالح الشعوب).
هكذا كانت فلسفة الحرب عند القائد الخالد, ولكن هذه الفلسفة وهذا المفهوم الدقيق للحرب, لم يجعله يوماً مستكيناً, ولا متردداً في ممارسة هذا الذي يكرهه, عندما لا يفهم الطرف الآخر ذلك : ( الشعوب لا تريد الحروب لكن إذا كان من شروط تحررها واستقلالها ,تقدّمها أن تكون حروباً, فموقف الشعوب من هذه الحالة مختلف). وقال الرئيس الخالد : (كل حرب لها أسبابها) و ( الحرب العادلة هي فقط عندما تكون دفاعاً عن الوطن).
كان بطل حرب تشرين مناهضاً للحرب بمفهومها المجرد فعلاً, وداعية سلام كافٍ:
( قضية السلام العالمي مطلب كل البشر, لا يريد الإنسان أن يتصوّر حرباً عالمية, لأنها تدمر كل شيء, فهذا الأمر يجب أن نراه, ويجب أن نناضل بكل الإمكانات لمنع وقوع الحرب).
ولكنه قال: (تحت قصف القنابل لا يمكن توقيع اتفاقية للسلام) وقال أيضا:( الحرب ليست إرادة مشتركة, السلام بين الناس إرادة مشتركة, الحرب يمكن أن تقع نتيجة رغبة أو إرادة طرف واحد) وقال الرئيس الخالد:( السلام فيه مصلحة لكل الشعوب , والحروب - من حيث المبدأ- ليست مصلحة لأحد).
هكذا كان القائد الخالد حافظ الأسد, قائد حرب تشرين, يفهم مسألة الحرب والسلام.. وهكذا خاض الحرب, وهكذا انتصر, فكان هذا الإبداع الذي تتناقله الأجيال بنشوة وتفاؤل.