حتى تحركت إسرائيل في الاتجاه المعاكس كعادتها مع كل فرصة أتاحتها سورية في السابق لتفعيل عملية السلام , ومع كل مبادرة إيجابية أطلقتها لتقريب هذه العملية من هدفها المنشود بحل الصراع على أساس سلام عادل وشامل , يدفعها إلى ذلك هدفان أساسيان هما: تشويه حقيقية الموقف السوري بعد أن وضع الكرة في المرمى الإسرائيلي وحشر موقف شارون وحكومته من السلام وعمليته في الزاوية الصعبة , والحيلولة دون إحياء عملية السلام مجدداً وتمكينها من التواصل نحو غايتها المحددة في مرجعيتها القانونية ومبدأ مبادلة الأرض بالسلام .
ويكاد السيناريو الذي أعاقت إسرائيل به جهود السلام في السابق يعيد نفسه مع اختلاف بسيط بين لاعبيه , ناشىء بالضرورة عن اختلاف الوجوه المسؤولة بين الأمس واليوم , فيما الجوهر والمواقف والاتجاهات وأساليب التعويق والعرقلة بقيت هي هي, تدل عليها التصريحات والذرائع التي استند إليها المسؤولون الإسرائيليون في تعاملهم السلبي مع المبادرة السورية بما في ذلك ترديد الاسطوانة المشروخة باتهام سورية بدعم ما يسمونه الإرهاب ويقصدون به المقاومة الفلسطينية واللبنانية , والادعاء بأن استعداد سورية لاستئناف عملية السلام ( مناورة لغرض الدعاية ) الأمر الذي يستدعي التذكير بحقائق كل من الموقفين السوري والإسرائيلي , وأي منهما كان بحق مع السلام , أو كان ضد السلام وفرصه وجهوده ..?
ومن اطلع على محاضر محادثات السلام ووثائقها يقف بسهولة على أنه لم يكن لسورية شروط على مفاوضات السلام بمعنى الشروط التي لا يتم عقد المفاوضات دون تحقيقها مسبقا , كما لم تضع سورية خلال المراحل المختلفة لهذه المفاوضات على مدار عشر سنوات ونيف أي عقبة تؤدي إلى تجميدها وتعطيلها , وكانت النظرة السورية لعملية السلام أن تكون وسيلة وإطاراً فعالين من أجل إنجاز سلام حقيقي يعيد الحقوق إلى أصحابها ويضع حداً لحالة التوتر الدائم في المنطقة , لا أن تكون غاية بحد ذاتها أو مفاوضات مجردة من هدفها بمعنى التفاوض لمجرد التفاوض على النحو الذي أرادته إسرائيل دوماً .
وبالقدر نفسه يدرك المتتبع لمحادثات السلام في مختلف أطوارها أن إسرائيل ظلت تمارس عن سوء نية وقصد, سياسة المناورة والتعجيز لحرف عملية السلام عن مسارها الطبيعي لئلا تبلغ هدفها المحدد بإنجاز سلام العدل والشمول , لأن هذا السلام يلزمها بما لا ترغب الالتزام به من إنهاء للاحتلال وتفكيك للاستيطان وكبح لجماح نزعتها العدوانية المتأصلة في فكرها وعقيدتها وسلوكها السياسي .
وكأمثلة على هذه السياسة , حسبنا التذكير هنا ببعض الشروط التعجيزية التي طرحتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في مقولات مختلفة كانت كل منها كافية لتعطيل عملية السلام ونسف جهودها, ومنها مثلا ( الأمن قبل السلام .. والأمن مقابل السلام ..والسلام مقابل السلام. والانسحاب في الجولان وليس منه .. والتطبيع قبل السلام .. والقدس عاصمة (أبدية) لإسرائيل ..ورفض الانسحاب الكامل والموافقة على الانسحاب من 42% من الأراضي الفلسطينية المحتلة إثر عدوان حزيران 1967 , ورفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين , والزعم بعدم وجود شريك فلسطيني حقيقي في السلام ).
إسرائيل تضع كل هذه الشروط على مفاوضات السلام وتتنكر معها لوديعة رابين بخصوص الانسحاب الكامل من الجولان مقابل السلام مع سورية , والتي كانت موضع اعتراف الرئيس كلينتون في مذكراته المنشورة مؤخراً , ثم تتهم العرب وسورية بأنهم هم الذين يضعون شروطاً مسبقة في محاولة مكشوفة منها للخلط بين استحقاقات السلام والشروط عليه رغم التناقض الكبير بين مفهوم الشروط التي تضعها لنسف عملية السلام وإضاعة جهود عشر سنوات من المباحثات والنتائج المهمة , ومفهوم الاستحقاقات التي تشكل جوهر السلام ومغزاه , وهو ما تكرر فعله اليوم بمحاولة التشكيك في جدية الموقف السوري .
لقد قال تيري رودلارسن تأكيداً لانطباعاته الإيجابية عن موقف سورية من السلام ( إن الرئيس الأسد جدد خلال اللقاء - يقصد لقاء السيد الرئيس معه قبل يومين - موقف سورية إزاء تحقيق السلام في المنطقة وفقا لقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة ومبدأ الأرض مقابل السلام ) وفي هذا القول شهادة قاطعة بأن لسورية موقفا ثابتاً من السلام وجهوده لا يحتمل التأويل والتفسير المغرض , وإشارة إلى أن الكرة ستظل في الملعب الإسرائيلي ما دامت إسرائيل تمارس موقفا مناوراً متحايلاً يتمحور حول الادعاء ظاهرياً بالحرص على السلام والاستعداد له , وبالعمل باطنياً , من خلال سياسة تعجيزية ثابتة , على عرقلة جهود السلام وتعطيل أي مبادرة لتنشيطها وتفعيلها .