وإذا كانت هذه الاعترافات قد جاءت متأخرة جداً, فإن ذلك لا يعني أن باول كان طيلة هذه المدة مخدوعاً أو مؤمناً بصحة الأدلة التي قدمها وساقها لتبرير الحرب على العراق, ذلك أن ما قدمه في تلك الجلسة ما كان ليقنع طفلاً بريئاً لايعرف من الأمور سوى ألعابه ومحيطه الضيق.
فالوزير باول وشركاؤه في الإدارة الأميركية كانوا قد وضعوا للحرب مسبقاً أسوأ سيناريو, وكانت الأدلة على أن العراق يشكل مصدر تهديد كبير ووشيك لأميركا بسبب ما يمتلكه من أسلحة دمار شامل, ومن تقنيات عالية لنقلها واستخدامها تمثل الفصل الأخير في حملات التضليل والتهويل التي شنتها واشنطن ضد العراق, وبهدف كسب دعم وتأييد الرأي العام العالمي لتوجهاتها, والذي قاوم هذه الحملات وبقي معارضاً للحرب ومازال.
ولعل ما دفع الوزير باول مؤخراً إلى الإقرار بسوء تقدير بلاده برامج الأسلحة العراقية المزعومة, كثرة الأدلة التي تلاحق إدارته وتؤكد أن العراق لم يكن يشكل أي تهديد لأحد, ولم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل, وهي الحقيقة التي أكدها هانز بليكس وفرق التفتيش قبل الحرب, وتم تأكيدها مؤخراً في تقرير اللورد باتلر في لندن, كما كانت أكدتها اللجان المختصة في مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين وتسببت بفضيحة لوكالة الاستخبارات الأميركية دفع ثمنها مديرها جورج تينيت.
في سلسلة الاعترافات الأميركية بشأن أخطاء الحرب وسقوط ذرائعها, لا يشكل اعتراف باول حدثاً غير عادي, لكن اعترافه بتضرر سمعته وسمعة رئيسه الشخصية في هذا التوقيت بالذات يمثل جزءاً من الإقرار بالهزيمة نظراً إلى تراجع شعبية بوش إلى أدنى مستوياتها, ونظراً إلى ما تعكسه استطلاعات الرأي من أن غالبية الشعب الأميركي بات يؤمن بخطأ الحرب, ويدرك مستوى الأذى الذي سببته إدارة بوش لسمعة ومصداقية وهيبة الولايات المتحدة ومؤسساتها العريقة.
ويبقى اعتراف باول في جزئه المتعلق بخطأ إدارته حينما هونت من قوة المقاومة العراقية واستهانت بها إلى جانب الإقرار بصعوبة التغلب عليها وإنهائها, هو الاعتراف الأكثر دلالة على عدم مشروعية الحرب والاحتلال, حيث ينطوي ذلك على اعتراف صريح بأن واشنطن جعلت من الشعب العراقي الرافض لوجودها على أرضه عدواً لها.
كما ينطوي هذا الاعتراف على إقرار واضح بخطأ حسابات الحرب وتداعياتها على جميع المستويات المادية والمعنوية, والتي بدأت تترك آثاراً بليغة على سير الانتخابات الرئاسية الأميركية, وراحت تهدد مستقبل ومصير الرئيس بوش السياسي.
إن الوزير باول يخطىء في تقديراته مجدداً إذا كان يعتقد أن إنقاذ سمعته وسمعة رئيسه يتوقفان على النجاح بالقضاء على المقاومة العراقية, ذلك أن الهروب إلى الأمام سيفاقم مأزقهما السياسي والعسكري ويسيء إلى سمعتهما وسمعة بلادهما, وإذا كان من أمل وسبيل لديهما لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من سمعة وهيبة ومصداقية, فإن الانسحاب السريع من العراق والتخلي عن غرور القوة ونزعات الهيمنة هو السبيل الوحيد لذلك.