ما كان يجري في أبو غريب, عينة من الخدمة السياسية والأخلاقية والقانونية التي أرادت تقديمها »الديمقراطية« الأميركية بمهنية عالية من الأداء, عبرت عنها تفاصيل التعذيب, وشرحتها بإتقان تعليمات المسؤولين الأميركيين المكتوبة منها والشفهية, والتي تفصح عنها اعترافات جنودهم.
وإذا كانت الاعتراضات والانتقادات قد شكلت انقلاباً في المنحى السياسي للمشهد الدولي, فإن الهيمنة برؤيتها الاستلابية, والعولمة بمظاهرها المختلفة أريد لهما أن يكونا في نسخة التعذيب الأميركية عنواناً للممارسة السياسية المستمدة من الفهم الجديد للعلاقات الدولية.
والأخطر أن استيلابية المشهد ذاته يراد لها أن تعمم وفق نموذج العولمة ولكن بصيغتها الاعتقالية المعتادة, مع الارتكاز على فرضية أن التعميم هنا يشكل توحيداً لتلك النماذج, والأكثر من ذلك برمجة ذاتية لمعطيات الممارسة الأميركية.
وبالتالي الفضيحة بمقاييسها الأخلاقية والسياسية والقانونية هي إسقاط مباشر لآلية تفكير, وترجمة فعلية لأوامر عليا سبق للقيادات العسكرية الأميركية, أن أصدرتها, وهي استجابة لرؤية سياسية يتبناها صقور الحرب الأميركيين.
وحتى يكون المشهد وفق تراجيديا البحث عن تفاصيل أخرى لاستدراج الموقف السياسي لم تتأخر مواعظ »الأخلاقيين« في بث نمط من الإيحاء الديني الذي كان ولا يزال يربط خيط المفارقات القائمة في منحى السياسة الأميركية بحلتها التبشيرية, وبأفق أخلاقي تتداعى مقوماته, وتنهار مبرراته وذرائعه وحججه.
قد تكون الفرضيات المرافقة لمفاهيم تعميم المعتقلات خارج العراق, كنموذج لسياسة أميركية متخمة بالغرور والغطرسة, هي الشكل الأكثر قدرة على التعبير عن تداعيات الفضيحة الجديدة, ولكنها تظل عاجزة عن تفسير ذلك الإعداد الأميركي المسبق لتكون المعتقلات الأميركية, بإسقاطها الإيحائي, واحدة من تعابير العولمة حتى في الاعتقال.
وهذا الإسقاط لم يكن جديداً في أسلوبه, وإن كان كذلك في الموضوع, باعتبار أن الولايات المتحدة الأميركية بعدما ضاقت ذرعاً بالاعتراضات, شعبية كانت أم مؤسساتية,على ثقافة التعميم تلك, لجأت إلى التطبيق تحت ضغط الانهيارات الأخلاقية والقانونية التي تتوالى تباعاً.
والمشهد وفق صيغته الحالية ينذر بما هو أخطر, خصوصاً أن ما يتكشف من تسريبات عن الممارسات الأميركية التي تتلون أشكالها ومستوياتها تبعاً لثقافة سياسية مشبعة بالرغبة في السطوة إلى حدودها القصوى.
ولعل التعبيرات الأميركية عن الضيق, تشكل هاجساً مقلقاً تبرز انعكاساته الفعلية في التراكمات المتتالية, والتي دفعت بالمصداقية الأميركية إلى التآكل تدري جياً إلى حد أن الحديث عنها لم يعد مجرد استنتاجات, بل أضحى سمة ملازمة وما كان يقال في السر أضحى في العلن, وتؤكده الكثير من المعطيات التي يبدو أغلبها موثقاً وموضوعياً.