لماذا لا تنظر الى عيني وبكل وضوح وتقول لي: ها أنا سأمشي بعد قليل? ولماذا تركتني اقنع نفسي بأني امسك بالوقت كما امسك بقميصك الفضي المخضر كغروب صيفي لا تتفلت منه المدينة بسهولة. لكن كان لابد لي من النظر اليك بعيون القلب حين راحت يدك ترتب ازرار القميص .. وراحت عيناك تقتنص نظرة سريعة من الساعة .. بل نظرت اكثر من مرة الى الباب .. كنت احصي كم حركة تؤدي الى باب الرحيل .. وكنت بسؤال النفي - أو هكذا اردت ان أتأكد من مزاعم احساسي - هل ازيد لك القهوة!؟
وأنت قلت أجل: زيدي.
مع ذلك لم اصدق فناجين القهوة التي اعدنا ملأها ثانية وأخذنا نعب ليلها الطويل ونعيد صياغة اسئلة جديدة, وكلما خرجنا من سؤال ندخل في الآخر حتى كأن الاسئلة هي نوع من حياكة بنيلوب لصوف لا ينتهي. كنا معاً متورطين بالحياكة حتى نهرب من عتبةٍ واقفة على بعد امتار, غير عابئة بقهوة نضحك عليها وتضحك علينا.
لم تفارق نظرتي الباب البني اللامع, الهادئ والساكن وكأنه لن يحز اصواتاً مفزعة بعد لحظات..
وبعد لحظات ستسند امرأة رأسها على الباب وتراقب الطريق من خلال العين الساحرة خوفا من الجدران المتقابلة, والابواب الواشية. ثم, وبعد لحظات ستعود الى المرآة. تنظر منها لتراقب هيئتها التي تركتها في عينيك .. كيف رأيت شعرها?! وكيف نزعت عنه ترتيبه .. وستراقب عطرها والكحل الاسود الذي ينسدل على الرموش .. وتريد ان تعرف, هل بقي لون قميصها الابيض عالقاً على يديك? أم أنك ستترك لها عطرها, وقهوتها, وصوتها, كلا في مكانه وترحل!؟
اقتربت من المرآة كثيراً .. ثم ابتعدت .. غير أنها لم تجد لها أثراً في المرآة .. أين اختفت تلك المرأة التي تهجي الشارات وترشف القهوة مدعية أنها لا تفهم شيئاً عن الرحيل والترحال ولا تقدر أن تجد سؤالاً لنظراتك المتكررة الى الساعة .. ولا الى سؤالك الملحاح (أنت منيحة?!) وادعت انها لا تفهم ان هذا السؤال ليس سوى اتكاء على سؤال آخر قد يأتي بعد لحظة (أتريدين شيئاً)؟.
غير أنك هذه المرة لم تقل: أتريدين شيئاً?! ولم تسأل كما هو السؤال المفترض »ما خطتك!?« وكان السؤال كافيا لتدرك ان عليها ان تمتلك خطة باستمرار ومشروعاً لأن تقضي ما تبقى من الوقت وحدها حيث إن لديك خطة تقضي بأن ترحل لتنفذ هذه الخطة.
كنت ترشف القهوة بهدوء يوحي ان القهوة لن تنتهي الليلة وأن التفاح المستلقي على الطاولة الزجاجية لن ينتهي وقد يزهر, أو ينبجس عن اشجار باسقة في الصباح غير أنك فجأة نهضت وأمسكت بربطة العنق .. هي لم تقل شيئاً وأنت تعقد ربطة العنق وعندما غادرتها لم يبق الا ان تكمل قهوتك ثم تتفقد نفسها في المرآة ثانية, غير انها لم تجد نفسها - لقد قلت لك ذلك - إنما وجدتك أنت تملأ المرآة وتبتسم فأدركت أنك لم ترحل بعد.