ماذا عن تسييل الكائن البشري, أيضا على القماش أو على الورق? فعل هذا سلفادور دالي وقال, في لحظة الحد الأدنى من الهذيان أن هناك فعلا من أحال الكائن البشري إلى مادة سائلة, مستعيدا صورة مروعة لبابلو نيرودا من تلك الأمريكا اللاتينية الحزينة (حيث لعظامنا شكل الأنين المعتق).
سياسات خشبية, ثقافات خشبية, قيم خشبية, رؤى خشبية تحيل أحدنا إلى مادة سائلة. كم هناك من عربي يشعر أنه يشبه الماء الصدىء من قلة الاستعمال. أما لماذا أنتم هكذا, فلأن الإنسان عندكم قليل الاستعمال. الذي يستعمل في الإنسان العربي هو كل شيء ما عدا الإنسان...
إذاً, أي نوع من البقايا يرى أحدنا -أحدكم- حين يتأمل في المرايا?
لا تعنينا جائزة نوبل, هذا طائر خشبي أيضا ويحط أحيانا, وبشكل عشوائي على أنف رجل أو امرأة ما. قرأنا لبعض من حاز الجائزة. هل رأى أحدكم الببغاء وهي تتقيأ?
أجل, أجل, يمكن للفرد العربي أن يكون عبقريا. لائحة الأسماء طويلة, لكن كل شيء يتبعثر في الريح, لأننا نفتقد المؤسسة العبقرية. عبقرية المؤسسة التي تجعل الواحد منا يخرج من حالته السائلة. لا يعود علفا لقاذفات القنابل, لا يعود علفا للاستراتيجيات التي لا ترى في الكائنات الأخرى أكثر من عربات بشرية جاهزة لكل أنواع المرافىء. نحن الذين نقف (العربات تقف) على أرصفة المرافىء ونلوح بمناديلنا لقضايانا, لثرواتنا, لأجيالنا, وهي ترحل. كتبنا ذات يوم: يا مناديل المرمر في غرناطة...
لكن رقصة المناديل السبعة لا تتوقف: على صينية من قش لايزال الرأس العربي يقدم قربانا للأباطرة, للآلهة أيضا وأيضا.
كانت لنا ثقافة تدعى ثقافة القلب. يا أيها الذين قلدتم قيس بن الملوح ومزقتم رداءكم. في إحدى الدول العربية, قال لي رجل: (إياك أن تتحدث هنا عن الياسمين. يخالونك إرهابيا ويذهبون بك). إلى أين? تسأل إلى أين? المواطن الصالح ممنوع أن يكون ساذجا. يفترض أن يكون... سائلا. انتبهوا, من فعل سال لا من فعل سأل...
السؤال ممنوع لأنه كلام العقل. ألم تلاحظوا في فرانكفورت, وحيث كانت الثقافة العربية ضيف الشرف على معرضها الشهير هذا العام, كيف أن هناك مجتمعات بكاملها ممنوعة من الإنتاج الثقافي, والإبداعي. إذا حاولت أن تفعل هذا فمن ثقب الباب. لا ثقافة إلا ثقافة مولانا, لا عبقرية إلا عبقرية مولانا الذي (لا يفك الحرف), لكنه يفك كيسه لمن كان سائلا (وسائلا)...
لم يبق في قعر الكيس سوى مال قليل وساذج, سوى زمن قليل وساذج. علف لقاذفات القنابل. هل ترى عيونكم شيئا آخر?
عيوننا? قال مولانا إياكم أن تستعملوها لأنها تقودكم إلى... الحرام!